اعلنت الإمارات العربية المتحدة عن استشهاد خمسة واربعين من جنودها في محافظة مأرب اليمنية. ترافق ذلك مع استشهاد خمسة عسكريين بحرينيين ايضا في هجوم ناتج عن صاروخ استهدف مخزنا للذخائر في مأرب، المحافظة التي تعتبر في غاية الأهميّة من الناحية الإستراتيجية بالنسبة إلى مستقبل اليمن.
تقع مأرب في وسط اليمن. لا حدود لها مع المملكة العربية السعودية، لكنّها تمثّل الشريان الحيوي لصنعاء من زاوية أنّ معظم الطاقة الكهربائية التي تحصل عليها العاصمة اليمنية تأتي من مأرب حيث السدّ التاريخي الذي اعاد بناءه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله. جاء افتتاح السدّ الجديد في آب ـ اغسطس من العام 1986، في وقت كان اليمن في حاجة إلى كل مساعدة من أجل التمكن من الإستمرار والبقاء كدولة قادرة على توفير الحدّ الأدنى من سبل الحياة لمواطنيها.
كان هدف الشيخ زايد توفير المياه والكهرباء لأهل مأرب والمحيطين بهم ولسكان صنعاء أيضا.
لم يكن لديه من هدف سوى خدمة اليمن واليمنيين وذلك لأسباب عائدة أوّلا وأخيرا إلى الوفاء لليمن ولما قدّمته ارض اليمن تاريخيا للعرب في كلّ المجالات. في النهاية، ليس هناك عربي ينكر أن اصل معظم العرب من اليمن وأن انهيار سدّ مأرب كان بداية تشتت القبائل العربية في كلّ انحاء المنطقة، بما في ذلك شواطئ الخليج العربي.
كان انهيار سد مأرب في العام 580 (ميلادي) مؤشرا إلى تشتت القبائل العربية. كان الشيخ زايد، الوحدوي في تفكيره، رجلا ذا رؤية عندما قرّر اعادة بناء السدّ وإن في المكان الذي لم يكن فيه تماما، وذلك لتأكيد التعلّق بالوفاء للعروبة وما تمثّله، من زاوية حضارية أوّلا، وبفكرة المحافظة على التاريخ العربي وحمايته ثانيا وأخيرا.
أن يأتي استشهاد هذا العدد الكبير، نسبيا، من الجنود والضباط الإماراتيين في مأرب دليل على أن دولة الإمارات لا تزال وفية لرسالتها التاريخية ولرسالة الشيخ زايد. فالتدخل العربي في اليمن ابتداء من شهر آذار ـ مارس الماضي في ظل التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية، لم يستهدف في أي وقت سوى انقاذ اليمن واعادته إلى اليمنيين فضلا عن الحؤول دون أن يكون مستعمرة ايرانية.
كان هناك دائما وعي اماراتي للثمن الغالي الذي يمكن دفعه نتيجة خسارة اليمن. لم يكن جهد الشيخ زايد سوى تعبير باكر عن استيعاب الإمارات لأهمّية اليمن.
لن تثني الخسائر التي لحقت بالقوات المسلّحة الإماراتية تلك الدولة عن متابعة المهمّة التي نذرت نفسها من أجلها والتي كان من بين أهمّ ما حقّقته تحرير عدن. لا همّ للإمارات سوى المساعدة في أن يكون اليمن متصالحا مع نفسه من جهة وأن لا يتحوّل مستعمرة ايرانية عن طريق الحوثيين (انصار الله) المتحالفين للأسف الشديد مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح من جهة أخرى.
هناك خطر كبير على الأمن الخليجي في حال صار اليمن تحت السيطرة الإيرانية. الإمارات معنية بهذا الخطر، خصوصا أنّها تعرف تماما ما يعنيه أي استخفاف بالمشروع التوسّعي الإيراني القائم على استغلال الغرائز المذهبية إلى ابعد حدود. ليس سرّا أن الإمارات، التي تعاني من الإحتلال الإيراني لجزرها الثلاث منذ العام 1971، في ايام الشاه، تدرك قبل غيرها ما يمكن ان ينجم عن سيطرة ايران على اليمن عبر الحوثيين الذين يسمون انفسهم “انصار الله”.
كان الشيخ محمد بن زايد ولي العهد في ابو ظبي واضحا كلّ الوضوح ومستشفّا للمستقبل عندما علّق على الجريمة التي استهدفت الجنود والضباط الإماراتيين بقوله: “إنّ تطهير اليمن من الميليشيات الإنقلابية التي عاثت تخريبا وفسادا هدف لا يمكن أن نحيد عنه” مؤكّدا أنّ “ابناء الإمارات ثابتون في المضي بطريق ازاحة الظلم والضيم عن اخواننا اليمنيين”.
أكد وليّ العهد في ابو ظبي أن لا تراجع عن “عاصفة الحزم”، وهي عملية تستهدف تثبيت الشرعية في اليمن بدل تركه لقمة سائغة لإيران ولأدواتها المعروفة.
يشكّل هذا الكلام الصادر عن الشيخ محمّد فعل ايمان بالمهمّة التي تقوم بها الإمارات التي انضمت إلى الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية في اعادة اليمن إلى اليمنيين. لا خيار آخر امام الإمارات التي عليها قبل أيّ شيء آخر حماية امنها وحماية مواطنيها.
كان الشيخ زايد بن سلطان سباقا إلى معرفة أهمّية اليمن بالنسبة إلى الأمن الخليجي. هناك بكل بساطة استمرارية في السياسة الإماراتية. تستند هذه الإستمرارية إلى استيعاب لما يمثّله اليمن على صعيد الخريطة الخليجية. اليمن جزء من شبه الجزيرة العربية وامنها. فضلا عن ذلك، لا مفرّ في مرحلة مقبلة من تركيز خليجي على التطرّف الذي مصدره اليمن. هناك حاجة في مرحلة ما بعد التخلص من سيطرة الحوثيين على صنعاء إلى نظام يمني تنتج عنه حكومة قويّة تهتمّ بمواجهة “القاعدة” التي تمتلك قواعد في محافظات عدّة، خصوصا في حضرموت وشبوة وابين وحتّى في عدن. يفترض في هذه الحكومة التركيز في الوقت نفسه على المشاكل الإقتصادية والتنموية الني يعاني منها اليمن حيث ما يزيد على مليون طفل مهددين بالموت بسبب سوء التغذية.
يشكل اليمن اكبر تجمع سكاني في شبه الجزيرة العربية. لا يستطيع بلد مثل دولة الإمارات العربية المتحدة الوقوف مكتوفا حيال ما يدور فيه. في الماضي، لم يكتف الشيخ زايد بالتفرّج على ما يجري في اليمن. سارع منذ العام 1986، وقبل ذلك بسنوات عدة إلى انقاذ ما يمكن انقاذه واتخذ في العام 1994 قرارا في غاية الشجاعة باستقبال عدد كبير من ضحايا حرب الإنفصال، خصوصا من الجنوبيين.
هناك الآن وضع في غاية الخطورة عائد إلى انهيار الدولة المركزية جراء محاولة الإخوان المسلمين الإستيلاء على البلد بعد خطفهم الثورة الشعبية التي اندلعت في العام 2011. خدم الإخوان في واقع الحال ايران التي استفادت من الفراغ في السلطة ومن وجود الحوثيين الذين وضعوا نفسهم في خدمتها منذ فترة طويلة من منطلق طائفي ومذهبي.
تدافع الإمارات عن نفسها في اليمن. الأبطال الذين استشهدوا في مأرب، كانوا في خط الدفاع الأوّل عن بلدهم. كانوا يؤدون واجبا وطنيا ليس في خدمة بلدهم ودفاعا عنه فحسب، بل في خدمة كل اهل الخليج ودفاعا عنهم ايضا…
إنّها خسارة لا تعوّض لبلد صغير. القلب يدمي على شباب كانوا يكملون رسالة لا يدرك معناها إلّا من عرف في العمق ما هو على المحكّ في اليمن وما معنى مواجهة المشروع التوسّعي الإيراني الذي وجد قاعدة له في هذا البلد الذي يُعتبر امنه جزءا من الأمن الخليجي كلّه لا اكثر ولا أقلّ.