هذه الرسالة التي اوردها فيما يلي كنت كتبتها الى نلسون مانديلا في خريف العام 2005 وذلك على خلفية القمع العنيف الذي استخدمته اسرائيل ضد عمليات الاحتجاج غير العنيفة التي قام بها فلسطينيون واسرائيليون ضد بناء الجدار الفاصل. والايام الاخيرة اعادتني الى تلك الرسالة التي لا تزال وللأسف الشديد واقعية كما كانت.
فمؤخرا قام وزير المخابرات اليهودي في جنوب افريقيا روني كاسريلس بزيارة الى اسرائيل والاراضي الفلسطينية وسوريا وايران. وانتقد اسرائيل بشدة ومن جملة ماقاله :”الاحتلال يذكر بأشد ايام الابارتهايد ظلاما” (في مقابلة مع جدعون ليفي, صحيفة “هآرتس” 25.5.07). وعلاوة على ذلك يؤيد كاسريلس الدعوة التي وجهها اتحاد نقابات العاملين في جنوب افريقيا COSATU (والتي ينتسب اليها 1.8 مليون عضو) الى حكومة جنوب افريقيا بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع اسرائيل وفرض المقاطعة الاقتصادية عليها.
وعلى الرغم من اليأس الذي يستحوذ على الفلسطينيين وعلى معسكر السلام الاسرائيلي من ايجاد حل ينهي الاحتلال, بل وربما بسبب هذا اليأس, فانني لا استطيع كانسان وفلسطيني ان لا ابالي بهذه الاصوات التي تدوي عاليا في جنوب افريقيا اليوم. فهل في الناس من هو اعلم واخبر من مواطني جنوب افريقيا بفضائل ونجاعة سلاح المقاطعة ضد انظمة القهر والطغيان؟ وهل على الارض من يعلو على الفلسطينيين في طول الانتظار وجميل الصبر والتطلع لاستخدام هذا السلاح؟
فان لم يكن في هذه البشائر ما يجعلني اخرج تلكم الرسالة الى حيز النور, فليكن نشرها مساهمة متواضعة مني في فسيفساء التوثيق والاحتجاج بحلول الذكرى السنوية الاربعين للاحتلال.
علي الازهري
4 نوفمبر 2005
السيد نلسون منديلا
يوهانسبورغ
جنوب افريقيا
عزيزي السيد منديلا الموقر,
لطالما وددت في ان اكتب اليكم وأحييكم وأعرب لكم عن بالغ تقديري واحترامي لشخصكم الكريم. حتى قبل أن أفلحتم انت ورفاقك وجميع الأفارقة معا في الاطاحة بالابرتهايد. ففي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عندما رغبت في تعليق صورة ياسر عرفات في شقتي في تل ابيب كي اعبر عن تلهف ابناء شعبي الى الحرية السياسية والمساواة مع الاسرائيليين ولم اجرؤ على ذلك, علقت صورتك انت عوضا عنها. ولم يكن ذلك مجرد مخرج فني تفاديا مني لملاحقة السلطات الاسرائيلية, فإنك لم تمثل من غياهب سجن روبين آيلاند شعبك وحسب, بل مثلتني ومثلت جميع اولئك الذين تاقت انفسهم الى الحرية.
لقد كان يوم العاشر من ايار عام 1994 أسعد ايام حياتي وأشدها انفعالا. فلم يسعني وانا اشاهد مراسم أدائك اليمين القانونية كأول رئيس لجنوب افريقيا الحرة, إلا ان استذكر, كوني وليد اسرة مسلمة متدينة, أحسم حدث في تأريخ الاسلام, وهو فتح النبي محمد مكة في أواخر كانون الثاني عام 630 للميلاد. وقد دخلها على رأس جيش مظفر بعد ان اضطر الى الخروج منها وفئة قليلة من المسلمين الاوائل قبل ثمانية اعوام إثر اضطهادهم بسبب عقيدتهم. وقبل ان يطهر الكعبة التي كانت يومئذ مركز الوثنية العربية لشبه جزيرة العرب كلها, خاطب محمد المشركين اعداءه حتى الامس القريب الذين احتشدوا حول البيت العتيق قائلا:
يا معشر قريش, ما ترون أني فاعل بكم؟
قالوا: خيرا, أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.
ولو اني شهدت ذلك المشهد في القرن السابع الميلادي, لكنت, إزاء هذا التسامح الفذ العظيم, لا ريب قد أسلمت فيمن أسلم قبل ان غربت شمس ذلك اليوم المشهود. عوضا عن ذلك قدر لي ان اتشرف بمشاهدة ذلك الحدث التاريخي الجلل المذهل الذي جرى في اليونيون بلدينغ Union Buildingعقر دار الأبارتهايد وحصنه الحصين في يوهانسبرغ. فوقفت مشدوها امام قدرتكم على كظم غضبكم التاريخي على البيض وكبح شعوركم في الانتقام منهم ومصالحتكم إياهم وغفرانكم لهم ما اجترحوه في حقكم قرونا من الدهر. إن ما تحليتم به من رؤيا وما أبديتموه من النبل وضبط النفس والانسانية ما كان ليمر دون ان يترك وقعا أيما وقع في قلوب البشر وألبابهم. فما أن غربت شمش ذاك العاشر من ايار حتى تمندلت.
ورغم الفارق والاختلاف بين النزاع العرقي الذي كان قائما في بلادكم وبين النزاع القومي المتواصل عندنا, فإنني كفلسطيني أقف مشدوها حيال تحقيق حلمكم في التصالح بين الأعراق في جنوب افريقيا, ولا يسعني إلا ان أحلم وأفكر وأعمل على ضؤ تلكم الرؤيا هنا في هذه البلاد حيث ولدت وحيث أعيش. إن تحقيق حلم منديلا وتجسيده واقعا سياسيا في تلك البقعة من الارض الممتدة ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط يعني في نظري إنهاء الاحتلال الاسرائيلي وإزالة كافة المستوطنات وإنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة في الاراضي الفلسطينية التي احتلتها اسرائيل عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية, الى جانب دولة اسرائيل داخل حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الغربية. ولن تقسم القدس بعد ابدا وستكون مفتوحة لكلا الشعبين وللديانات الثلاثة. وفي الوقت ذاته يجري إصلاح داخل اسرائيل فتتحول بموجبه من دولة يهودية الى دولة جميع مواطنيها, الى دولةَ يتمتع جميع مواطنيها وسكانها بالمساواة في الحقوق الانسانية والمدنية والقومية.
يعيش الآن داخل حدود اسرائيل (في حدود 1967) اكثر من مليون فلسطيني يعانون التفرقة على الصعيدين الفردي والقومي. والموقع أدناه هو أحدهم. ورغم انني وأفراد اسرتي بقينا داخل حدود دولة اسرائيل عند قيامها عام 1948, فإن الدولة تمنعنا من العودة الى ارضنا وبلدتنا التي دمرتها بعد حرب 1948 وأنشأت على اراضيها مستوطنة لا يسمح إلا لليهود في الاقامة فيها. وهناك حوالي ربع مليون مواطن مثلي يعيشون لاجئين داخل وطنهم قبالة اطلال قراهم واراضيهم التي منحت لليهود. فإن أصلحت اسرائيل حالها وكفت عن كونها ديموقراطية جزئية تقوم على أساس قومي او قومي_ديني (اي: يهودي), فلسوف أكون مستعدا للتناول عن أعز وأنفس ما ملكت يمين كل فلسطيني, سأكون مستعدا للتنازل عن حقي في العودة. أجل, سأكون مستعدا, انا شخصيا, للتنازل عن حلمي, حلم امي وأبي, في العودة الى صفورية قريتي ومسقط رأسي (حيث ولدت القديسة حنة والدة مريم العذراء) في الجليل. ولسوف اعتبر تحقيق المساواة التامة مع اليهود داخل اسرائيل وبين دولة اسرائيل ودولة فلسطين الآتية تعويضا مناسبا عما تسببته لي دولة اسرائيل من خسارة ومعاناة جراء إنشائها.
لكنه يبدو, ولسوء الحظ, ان تحقيق حلم منديلا في بلادنا بات الآن متعذرا اكثر من اي وقت مضى. فالوضع في الاراضي المحتلة يتفاقم. وكما تعلمون, تقوم اسرائيل منذ اكثر من عامين بإنشاء جدار فاصل بينها وبين الفلسطينيين فوق اراضي الفلسطينيين داخل المناطق الفلسطينية التي احتلتها اثناء حرب 1967 في الضفة الغربية. وتبرر اسرائيل إقامة الجدار كضرورة لحماية مواطنيها من عمليات الارهاب الفلسطيني. لكن لو كانت اسرائيل معنية حقا في التصالح والسلام وليس في الاستيطان والضم, لكانت قد أنشأت الجدار على حدود الرابع من حزيران 1967 بدلا من إنشائه في عمق الاراضي الفلسطينية. ان ما ترمي اليه اسرائيل اضحى واضحا على الارض: مصادرة ما تبقى من اراضي الفلسطينيين وضمها الى المستوطنات استعدادا لضم معظم هذه المستوطنات الى اسرائيل. وبإنشائه يخلق الجدار الجيوب والغيتوات التي تحاصر وتعزل داخلها الالوف من البشر, فيما يعزل الجدار في بعض المناطق عشرات الالوف من القرويين عن اراضيهم التي يعتاشون منها. وقد يخلق الجدار الكانتونات والبانتوستانات مما يجعل إنشاء دولة فلسطينية امرا مستحيلا. من هنا جاء قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي القاضي بعدم شرعية الجدار وبوجوب إزالة اجزائه التي لم تبنى على الخط الاخضر (حدود الرابع من حزيران 1967). ولعلكم تعلمون ان اسرائيل اقامت ايضا في العقد الاخير شبكة طرق في انحاء الضفة الغربية خاصة بالمستوطنين الاسرائيليين ومقصورة عليهم.
على هذه الخلفية وفي الوقت ذاته نشأ بين الفلسطينيين في السنتين الاخيرتين نمط جديد من المقاومة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد الاحتلال. ويتجلى ذلك في عمليات الاحتجاج والمظاهرات الفلسطينية-الاسرائيلية المشتركة وغير العنيفة التي يشارك فيها الآلاف من الفلسطينيين والمئات من الاسرائيليين. ويرد جيش الاحتلال الاسرائيلي على ذلك بالعنف, اذ قتل حتى الآن حوالي عشرة من المتظاهرين وجرح المئات منهم بما فيهم اسرائيليين.
سيدي, اسمح لي, بصفتي ناشطا في هذا النضال, ان أروي لك عن حلم يراودنا نحن المتظاهرين من ابناء الشعبين. حلمنا هو ان نرى نلسون منديلا بيننا ومعنا في إحدى مظاهراتنا يأخذ بأيدينا ويشد من عزائمنا. فالآن واكثر من اي وقت مضى نحن في حاجة اليك. الآن في الوقت الذي تسارع فيه حكومة شارون تحت الستار الدخاني للانفصال (او ما يسمى الانسحاب من قطاع غزة) الى بناء الجدار وتوسيع الاستيطان وفرض المزيد من التقييدات على تنقل الفلسطينيين في الضفة الغربية, فليس لك كفؤ كصاحب تجربة في تقويض ودك اسوار الفصل والكراهية بين الأعراق والشعوب! ان زيارتك لبلادنا سوف تستقطب من جديد الرأي العام الاسرائيلي والدولي الى ما يجري في الاراضي المحتلة وستشجع الفلسطينيين والاسرائيليين على تنمية نضال مشترك في سبيل التعايش بمساواة وسلام.
مع أحر تمنياتي القلبية لشخصكم الكريم بموفور الصحة والعافية والمزيد من سنيي البذل والعطاء.
وتفضلوا بقبول اسمى آيات الاحترام والتقدير.
علي الأزهري
ص.ب 41158
يافا61411
اسرائيل
رسالة إلى مانديلا
فكرة اسرائيل لكل مواطنيها جيدة لكن اداة تحقيقها لا يفيد استيرادها لا من الماضي(التاريخ) ولا استعارتها من الشعوب الاخرى..فاصنعوا”منديلا”كم.مع التحية.