بعيدا عن الثنائية تلك التي أراد الصديق غسان المفلح حشرنا بها – مقاله السجن السياسي سلعة أم قداسة؟ – هناك تخوم أخرى، يمكن من خلالها النظر الى قضية الاعتقال السياسي والمعتقل السياسي محمولا عليها، وعبر تلك التخوم فقط تتوسع زوايا النظر للخروج من الأبلسة الكاملة أو الضد منها ملائكية مقابلة.
كان سؤال التحقيق الصحفي الذي قمت باعداده لمؤسسة الشهيد سمير قصير- سكايز – يتضمن السؤال التالي: “الى بعض معتقلي الرأي سابقا : عزيزي المعتقل السياسي سنوات اعتقالك “على الراس والعين”, ولكن يجب أن تدرك أن “سنوات الجمر” تلك لم تعد ملكك. هي رأسمال رمزي وثروة وطنية لكل الشعب السوري, وليست بضاعة تباع وتشرى, وليست مادة خصبة لاستدرار عطف الآخرين وليست منة منك على أحد,ولست بسببها الفهيم العليم القادر على كل شيء, فكفى عبثا بتلك الثروة”.
بالطبع، وربما الكثير منكم، لاحظ المخاطبة المباشرة ودرجة الاستفزاز العالية في السؤال، وهذا كان مخططا له من قبلي، لأن من أتوجه اليه بالسؤال سواء أكان معتقلا سابقا أو من لم يدخل المعتقل، هو كاتب أو قاص أوشاعر أو رسام … الخ. بمعنى آخر، هو مبدع في حقله. من الممتع والمفيد هنا، أن تستفز مبدعا، لأنك تنتظر نتائج استفزازك ابداعا جديدا.
هل نجحت في ذلك ؟ بالتأكيد لا أمتلك الا جزءاً صغير وهو الحق الممنوح لي من الجواب، انما وعبر ذلك الجزء أستطيع القول: فتح ملف معتقل الرأي (ما له وما عليه) الشق الثاني، “ما عليه” لم يحن بعد. وتقديري هنا، ليست الظروف الموضوعية هي العائق، انما الظرف الذاتي المتعلق بالمعتقل يقف هنا عائقا. وأرجع ذلك الى تبرمنا بالنقد. كذلك، الشق الثاني من ثنائية غسان “قداسة”، حيث يحوّل المعتقل الى ايقونة مقدسة، الاقتراب منها بالنقد، يخرج الكثير من مقولات جاهزة تنتمي الى “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
لا أريد العودة والخوض مجددا، أن سنوات الاعتقال هي “رأسمال رمزي وثروة وطنية”، فلقد تباينت الآراء في ذلك، انما أودّ أن أوضح بعجالة هنا، أن تلك السنوات وان ذهبت هدرا من تاريخ السوريين الذي هو بالمحصلة تاريخ سوريا، انما أرست دعائم لحرية بلدنا قد لا نحصد نتائجها الآن، انّما هي ثروة استراتيجية ستصيب تاريخا جديدا في مستقبل سوريا الذي سيأتي. هذا ما قصدته تحديدا بـ”الرأسمال” نظرت اليه من زاوية التراكم النضالي وليس كما نظر اليه غسان من زاوية النتائج الآن، أو في عمقه الكامن “والكامن خائف والخائف لا يستثمر” كما عبر غسان، ايضا منظور الى الخوف هنا مؤبدا وكأن لا تاريخية له، ونظرة سريعة الى تاريخ الخوف في سوريا تدل أن العتمة فيه يخترقها الضوء في أكثر من زاوية.
أصل الآن الى مناقشة معتقل الرأي “وما عليه”.
أغلب أدبيات المعارضة السورية – ما كتب حتى الآن وهو قليل قياسا بتلك المحنة – تحدثت عن ظروف الاعتقال، وهي ظروف غير انسانية بالمطلق، اذن متبوعا عليها هذه الكتابات وعلى تلك الظروف غير الانسانية، بل لا مغالاة القول أنها كانت وحشية عارية بالمطلق. ماذا اسفرت عنه هذه الوحشية؟ والجواب هنا ليس استنتاجا أو تحليلا أو وجهة نظر، انما حقيقة لا شك فيها، تثبتها كلّ أو، كما أسلفت، أغلب الكتابات التي تناولت هذا الموضوع. وقسم كبير منها بقلم من عاش تلك المعاناة، حيث تكاد تجمع كلها أن (تشويهاً) حدث، جسديا ونفسيا وفكريا، حيث تمزق الروح وتشقق الجسد، حيث الخوف، حيث الرعب، حيث الاستلاب الخ الخ . لا بأس هنا من الاستشهاد على غسان بغسان نفسه كنموذج عن تلك الأدبيات وما أراده السجّان من تشوهات: يصف المفلح خروجه من السجن بالفاجعة “فجعت بوفاة والدتي قبل خروجي من “فرع فلسطين” بعشرة أيام”. أيضا: “في بداية اعتقالي، فقدت والدي الذي أصيب بنوبة قلبية لعدم احتماله خبر الاعتقال، ولحظة خروجي من المعتقل فقدت والدتي التي كنت أنتظر رؤيتها تستقبلني في منزلنا”. وفي سؤال لمراسل “سكايز”: كيف يتذكر صراعه مع ذاته بعد خروجه من المعتقل وما هي ابرز الملامح التي تركها المعتقل في نفسيته؟ يقول: “مخزون هائل من الخوف..”. وفي مطرح آخريقول: “دفعني هذا الخوف الممزوج بإعادة الروح لكينونتي لترك سورية”.
كيف يتغلب المفلح على حنينه يجيب: “بالكتابة والحلم” وعن الشوق لأهله ماذا يقول؟ “أما الشوق لأهلي فهذا إحساس فقدته. لأنني أخاف أن تكتشف المخابرات شوقي إليهم! ويعتبرون هذا الشوق نوعاً من التواصل معهم وبالتالي يحملونهم مسؤوليته!”. وعن الخوف يتابع قائلا: “الخوف هو المكان الأكثر حضورا في مخيلتي عن سورية” . (بعض من تحقيق كنت أجريته مع غسان وآخرين بعنوان: “سوريون في المنافي” منشور في سكايز بتاريخ 31/3/2010).
هذا بسيط جدا، مقارنة مع شهادات أخرى وما أحدثه المعتقل من مصائب وآلام وتشوهات. ولكن ماذا يعني هذا؟
هل تبلسمت؟ هل شفيت؟ انتهت أثارها؟ أين تغلغلت؟ في أي الطبقات من الوعي تموضعت؟ هل تلعب دور الموجه، المسير، القائد لحاملها؟ وأسئلة لا تنتهي.
أكاد ألمح تعاطفا مع غسان المعتقل وأنا أول المتعاطفين. أردت غسان نموذجا لتلك الأدبيات لا غسان بشخصه، انما ذلك (البعض) الذي أنقده وهو 1% أو 2% كما أراد غسان، لامشكلة، هنا دللت عليه بـ”البعض” ممن لايزال يمارس نشاطا عام في مجالات السياسة الكثيرة، لأخلص الى رأي مفاده: أن السجن ترك لدى ذلك البعض المنقود وهو بعض لا يستهان به، عصبية ونزقاً وحقداً وتعالياً وتمترساً ضمن مواقف مقولبة وجامدة لا تلحظ ما تغير. قد يقول قائل: ان تلك المثالب موجودة أيضا لدى من لم يدخل السجن. أقول نعم، انما نقاشي هنا ينصبّ على التشوهات التي تركها السجن. أضيف اليها قصة المتاجرة في مستوييها المالي وجانب استدرار الشفقة والعطف وهنا قد تُخلق المبررات، انّما، تُذهب من هيبة وكرامة الانسان.
كان يمكن لمقالي هذا أن يناقش هذه الظاهرة أيضا في مستوى آخر، هو المستوى العملي؟ وأدلل على ما ذهبت اليه بأمثلة حية وهي كثيرة، عايشتها قبل خروجي من سوريا وبعده؟ لكنني وبصراحة خفت أن انزلق الى من يشخصن المسألة، مما قد يدخلني في أماكن لاأودّ الولوج اليها، أقلّه حاليا، لأنني كما قلت في مكان من هذا المقال لم تنضج كثير من الظروف بعد.