ربما كان الاندونيسيون – وتحديدا أبناء جزيرة جاوة – هم أكثر شعوب جنوب شرق آسيا اهتماما وانشغالا بأعمال السحر والشعوذة وكل ما يندرج تحت الخرافات والأساطير والقوى الخارقة. ولهذا السبب ظهرت قناعة لدى الكثيرين منهم بأن رئيسهم الأسبق الجنرال احمد سوهارتو يمتلك قوة خارقة خفية يستحيل معها إخراجه من السلطة. واستمرت مثل هذه القناعة حتى بعد اضطراره إلى ترك الحكم تحت وقع مظاهرات الطلبة وقوى المعارضة المطالبة بالديمقراطية في عام 1998، لكن بطريقة أخرى مفادها أن صورة الرجل ستبقى مهيمنة على الساحة ونفوذه سيبقى دون مساس ولن يستطيع خصومه النيل منه. ولعل ما عزز هذه القناعة لعدة سنوات هو أن سوهارتو– رغم هزاله واختلال صحته وإذلاله في المحاكم ووسائل الإعلام- ظل حديث الناس، بل ظل قادرا على امتصاص كل ما لحق به والاستمرار في الظهور في المناسبات العامة بوجهه الطفولي البشوش الذي كان يخفي وراءه شخصية أخرى نقيضة . لكن سوهارتو هذا رحل عن عالمنا مؤخرا بعد أن عاند الموت وشاغبه طويلا مثلما فعل مع أمور أخرى، انطلاقا مما اتصف به من عناد، طبقا لكل من عرفه عن قرب، بما فيهم سلفه بطل الاستقلال وأول رؤساء الجمهورية احمد سوكارنو.
وجاءت وفاة سوهارتو في الرابع من يناير الجاري لتؤرخ لحقبة جديدة ليس فقط في تاريخ اندونيسيا التي هيمن الرجل على مقدراتها بقبضة حديدية لأكثر من ثلاث عقود، وإنما أيضا في تاريخ جنوب شرق آسيا، باعتباره كان ضمن الرعيل الأول – مع الزعيم السنغافوري “لي كوان يو” والزعيم الماليزي مهاتير محمد- الذي أسس منظومة آسيان وقاد خطط التنمية والتحديث والبناء.
ومع رحيل الرجل عاد الجدل والنقاش حول دوره وموقعه في تاريخ اندونيسيا الحديث وسط انقسام شديد بين الاندونيسيين. فالكثيرون مثلا لا يرون فيه سوى حاكم مستبد، استطاع أن يمسك بالسلطة طويلا، ليس بفضل شعبيته أو مواهبه أو إنجازاته الخارقة، وإنما بفضل نظام كان واحدا من أكثر نظم الحكم قسوة وفسادا وقمعا وغموضا في القرن العشرين.
في مقابل هذا الرأي الذي يصفه البعض بالمبالغ والمتطرف، يرى اندونيسيون آخرون أن سوهارتو يكفيه فخرا أنه استطاع أن ينتشل البلاد – ولاسيما مجتمعاتها الريفية الفقيرة – سريعا من الحالة الاقتصادية والمعيشية المزرية التي أوصلها إليه حكم سلفه سوكارنو الذي برع في الهاء شعبه بالشعارات البراقة وتجييشهم ضد الغرب والجارة الماليزية، على حساب التنمية والاستقرار.
وبطبيعة الحال، فان الرأي الثاني الذي يقوده أبناء الطبقة الوسطى ممن تعاظم عددهم ونفوذهم في عهد سوهارتو، لا جدال فيه لأن سوهارتو وصل إلى السلطة في وقت كانت الحرب الباردة فيه على أشدها، الأمر الذي أدى إلى مراهنة الغرب على نظامه في التصدي لانتشار الشيوعية في جنوب شرق آسيا، مقابل حصوله على مساعدات واستثمارات مالية هائلة استخدمها في خطط تنموية للارتقاء بأحوال الطبقات الفقيرة وتعليمهم وإقامة صناعات وطنية قادرة على التصدير والمنافسة. وربما لو كان سوهارتو استجاب في الوقت المناسب لمطالب الطبقة التي كان وراء ظهورها وتناميها بالإصلاح السياسي والإداري، لما كان قد اجبر على الرحيل بالطريقة التي تمت.
ذلك الرحيل الذي كان مدويا ووصفته وسائل الإعلام وقتذاك بثورة الشعب والجيش الثانية في جنوب شرق آسيا بعد تلك التي حدثت في الفلبين في عام 1986. حيث تضافرت خمس عوامل مع بعضها البعض للإطاحة بالرجل: الأزمة المالية التي كان لها تأثير مدمر على مستويات المعيشة، انقسام الجيش ما بين مؤيد للرئيس ومعارض له، العزلة الدبلوماسية بسبب خروقات حقوق الإنسان واستشراء الفساد، وقضية تيمور الشرقية وما نجم عنها من قطع الغرب لمساعداته عن النظام، تلاحم قوى المعارضة وتنسيق أنشطتها وتحركاتها.
غير أن الانقسام بين الاندونيسيين ليس فقط حول عهد سوهارتو، وإنما أيضا حول شخصيته وأصله وطريقة وصوله إلى الحكم التي لا يزال الغموض يلفها دون حسم.
والمعروف أن سوهارتو شق طريقه إلى السلطة في عام 1965 أي غداة حركة 30 سبتمبر التي قيل أن الحزب الشيوعي الاندونيسي تورط فيها مع عدد من صغار ضباط الجيش وسلاح الطيران للانقلاب على نظام احمد سوكارنو وتصفية كبار قادة جيشه ومن ثم إعلان اندونيسيا دولة شيوعية على النمط الماوي. وفي هذا السياق يتبنى البعض نظرية أن سوهارتو الذي كان وقتها قد وصل إلى رتبة عقيد وكان يشغل منصبا إداريا، قد شارك في الانقلاب وتولى تصفية عدد من الضباط الأكبر رتبة منه كيلا يقف احد في طريق وصوله إلى هرم السلطة بدعوى التراتبية العسكرية. وأصحاب هذه النظرية يجدون الدليل في عدم تعرض الانقلابيين لسوهارتو بأي سؤ، خلافا لتعاملهم مع بقية كبار قادة الجيش مثل “عمر ياني” قائد سلاح الطيران ورئيس الأركان “عبدالحارس ناتيسيون” اللذين ذبحا ذبح النعاج في منزليهما اللذين تحولا لاحقا إلى متحف ومزار.
مقابل هذه النظرية، نجد نظرية أخرى أوردها الأكاديمي الاسترالي روبرت ايلسون في كتابه ” سوهارتو .. سيرة ذاتية” الصادر عن مطابع جامعة كمبردج في عام 2001 ، وهي أن سوهارتو لم يتورط في الانقلاب، بل استخدمه كبوابة للعبور إلى السلطة، ولا سيما في ظل غياب كبار زملائه عن الساحة، ثم استخدم السلطة لتصفية أعضاء ومناصري الحزب الشيوعي الاندونيسي، في إشارة إلى حملة التعبئة التي قادها ضد كل ما يمت إلى الشيوعيين بصلة، وإطلاق يد الغوغاء في الانتقام منهم، الأمر الذي أدى إلى مقتل وسحق أكثر من نصف مليون اندونيسي. وهذا الرقم لا يشكل سوى نصف الذين قضوا في عهد سوهارتو في عمليات تطهير ومجازر واغتيالات سياسية وحروب أهلية واثنية.
إضافة إلى القمع الذي مارسه سوهارتو ضد معارضيه، اتسم عهده بالفساد المزكم للأنوف والذي تجاوز كل الحدود بما في ذلك فساد آل ماركوس في الفلبين. وهذا ما دعا احد الصحفيين الآسيويين ذات مرة إلى الدعوة لإنشاء جائزة عالمية تمنح لأكثر زعماء العالم فسادا، مقترحا أن تكون الجائزة على شكل حذاء مذهب من أحذية ايميلدا ماركوس/ زوجة ديكتاتور الفلبين الأسبق التي اشتهرت بفسادها وعشقها لجمع الأحذية، وشريطة أن تمنح أولا إلى الجنرال سوهارتو نيابة عن آل سوهارتو لبراعتهم في اقتسام ثروات اندونيسيا بين الأبناء والأصهار والأصدقاء، علما أن هذه الثروات كان يجري تقسيمها في البدء بين سوهارتو وجنرالاته الذين أوصلوه إلى الحكم ثم صاروا بمثابة درع الحماية اللازم له من خلال انتشارهم رأسيا وأفقيا في مختلف الأنشطة وفق مفهوم ” ثنائية دور الجيش” أي حماية حدود البلاد من جهة وحماية النظام الداخلي من جهة أخرى. صيغة الاقتسام هذه كان من الممكن استمرارها طويلا، لولا أن “العيال” كانت قد كبرت وأكملت سن الرشد والتمييز وبالتالي صار بامكانها خوض غمار اللعبة في شقها الاقتصادي. وهكذا بدأت حظوة الجنرالات تنحسر لصالح أبناء سوهارتو وبناته على قاعدة “الاقربون أولى بالمعروف” ابتداء من الثمانينات. ومن هنا لم يكن غريبا أن تتجمع كافة خيوط الأنشطة الاقتصادية في أيدي أفراد العائلة السوهارتية ليصبح اللعب بها وإدارتها من شأنهم وحدهم. أما الآخرون فلم يكن أمامهم سوى كسب صداقتهم ونيل رضاهم وودهم للحصول على الفتات. وهكذا صار على كل باحث عن الحظوة والصفقات والامتيازات الحكومية في اندونيسيا خلال عهد سوهارتو أن يبحث عن خيط يوصله بابن الرئيس الأكبر “بامبانغ” أو الابنة الكبرى “توتوت” أو الابن الأصغر “تومي” أو طرق أبواب الابنتين الصغريين “تيتييك” و”مامييك”، أو على الأقل إيجاد وسيلة تقوده إلى انساب الرئيس أو أصهاره أو صديقه المقرب “بوب حسن”. فلقد كان لكل واحد من هؤلاء إمبراطوريته المالية المستقلة و نفوذه، ولكل أيضا مخالبه اللاقطة للعقود والتوكيلات والمناقصات حتى قبل خروجها من أدراج وزراء الحكومة المعنيين، كما كان لكل منهم بولدوزراته الكاسحة لمن يعترض الطريق أو يتجرأ على المنافسة. وبسبب من هذا كان “بامبانغ” يجلس في وقت من الأوقات على إمبراطورية تصل أصولها وأعمالها إلى نحو 3 بلايين دولار وتنشط في مجالات الاتصالات والبتروكيماويات والمصارف والإعلام، وكانت “توتوت” تجلس على ثروة تقدر ببليوني دولار من الانخراط في عوالم المصارف والعقارات والإنشاءات المدنية، وكان “تومي” ينام قرير العين على أكثر من 800 مليون دولار من أنشطته في قطاعات الطيران المدني والموانيء وصناعة السيارات.
ويقال أن نقطة ضعف سوهارتو الوحيدة كانت عائلته. حيث كان شرسا في دفاعه عنها مهما كانت أخطاء أفرادها، ولهذا ترك لهم الحبل على الغارب، وهم من جهتهم بالغوا في الفساد والنهب خاصة وأن نظامه المفتقر إلى الشفافية والمحاسبة سهل لهم ذلك.
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh