صعب.. نعم صعب رحيل الكاتب والروائي الشعبي الذي ما زال يحلم بكثير.. مثل هذا الشعب لا سند له غير أقلامه وكتابه ومنوريه.. لا حكومة تحميه ولا سياج ينمع عليه الغدر والقهر والقتل. الرصاص الذي يدعي البعض بانه يحميه. هو رصاص معلق في الجبال (وبالاصح انه في استراحة المقاتل ) وحتى ان كان الرصاص حاضرا فرأسمال الشعوب هو العلم والثقافة والذاكرة. ذاكرة الشعوب تحيا عبر القلم والورق وموهبة النسج.. وتحتاج الى الآلية التي تنقلها في شكلها الصحيح. الكرد، وهم شعب معذب دائما، تنقل عنهم صور مخالفة ويحكى عن ذاكرتهم الحية شيء مخالف بالرغم من اصرار البعض من متنوريهم على ان الذاكرة الكردية هي ذاكرة حية وتحكي عن التعايش والاخاء الا ان القدر يلعب دوره.. ويتركهم في خانة اخرى مختلفة عن طبيعتهم.. لا يود كاتب عربي ان يقوم بعمل روائي كردي من اجزاء ولا يريد ان يسمع خبرا عن كاتب او ملحمة او قصة مشوقة غنية بالعبرة. هذه المعاناة، وهي معاناة الشعب، كانت معاناة الكاتب الكردي التركي محمد أوزون.. وهو صاحب قلم غزير..وصاحب وصف عميق وسلس… وهو من اكبر كتاب الرواية الكردية و يعد من رواد الأدب الكردي الحديث.. القدر لم يتركه يحقق حلم شعبه المقهور.. هذا الشعب كان ينتظر في كل سنة واثناء توزيع “نوبل الاداب” ان تكون من نصيبه، والحق انه كان يستحقها. غاية شعبه ليست مكسب مال انما يمكن استغلال الحديث عنه لكي يتصدر الكرد معه ولاجل ان يقرأ ادبه والرويات التي تتحدث عن الذاكرة الكردية. نعم محمد اوزون رحل دون ان يحقق حلم شعبه، فما زال هذا الشعب يئن من وطأة القمع والتشريد. 54 عاما (وهو عمره) ليست كافية.. كان يستحق اكثر. لم يعيش طويلا بين ابناء شعبه ولم يتمعن صورة القهر المرسوم على وجنتي فتيات وفتيان دياربكر(امد بالكردية) وهي مدينة ينظر الكرد اليها على انها الحلم والهوية. عندما اصيب هذا الرجل بمرض خبيث بكى المشهد الثقافي الكردي، ترى كيف سيكون موقف هذا المشهد عندما يسمع نبأة وفاة هذا العملاق.. نعم انه عملاق.. عملاق الرواية.. والرواية الكردية تعرف باسمه، وعملاق السياسة حيث لم تغره اية شعارات، معروف بهدوئه وواقعيته. محمد اوزون صارع مرض السرطان وبالرغم انه عولج – منذ عامين في مستشفيات السويد وامريكا- السويد كان بلده في المنفى، وأميركا بلد اصدقائه. تعذب هذا الرجل كثيرا في حياته. تعذب من قبل الأكراد ولاجلهم، كان يهدد من قبل الأكراد ومن قبل الاتراك. لا الاتراك كانوا راضين من افكاره وقلمه، ولا الأكراد كانوا راضين عنه. اكثر من مرة بثت استخبارات التركية اخباراً كاذبة عنه خصوصا بعد ان عاد الى دياربكر، المدينة التي تحكي سيرة صباه واسطانبول – بعد ان قضى 28 عاما في المنفى في السويد ا. والعام 2005، كان عام الوداع, كذبت الصحافة التركية كثيرا بحقه، فمرة كانت تقول بان اوزون يهدد من قبل حزب العمال الكردستاني، وما ان يرد اوزون على الاكاذيب حتى تجهز الالة الاعلامية الموظفة للطورانية التركية خبراً اخر يسيء الى سمعته الوطنية. والحق كان اوزون من انصار الاعتدال والحوار. ومثلما كان ينتقد سياسة الشعارات، كان ينتقد موقف أنقرة تجاه القضية الكردية تركيا. وفاة اوزون عكرت جو كل الكتاب ومن يعمل في حقل الادب التركي والكردي. عند مرضه زاره يشار كمال وقال له :”انا ايضا كردي”. اوزون كان صارما ولا مرة ادعى انه تركي، بل اصر على كرديته وكان ينتقد سياسة الاتاتوركية في دمج الأكراد بالمجتمع التركي.
كان وزون كاتبا سلساً ومبدعا مهما في المشهد السياسي الكردي ولعله قل نظيره في وصف حال الأكراد. ومثلما استطاع استعادة الذاكرة الكردية الغنية، استطاع ان يقف كطود امام سياسة دمج الأكراد وامام سياسة العنف والقتل وعدم اعتراف بالهوية الثقافية الكردية. اوزون لم يرحل وهو يشعر بحرج تجاه شعبه. فقد ترك خلفه اكثر من (15) رواية. اول رواية له بعنوان: “أنت”، تو بالكردية، في عام 1985بعد سنة من انطلاق ثورة حزب العمال الكردستاني. واروع رواية كانت تحت عنوان :”النور مثل الحب، والظلام مثل الموت” وهي اخر عمل له، ترجم الى اللغات الفرنسية والانكليزية والسويدية اضافة الى عدد من الدرسات الادبية النقدية. اوزون الاديب كان أيضاً صحافياً وكاتب مقالات. عاش منذ 1976 في السويد وفي عام 1977 حصل على اللجوء السياسي. برحيل هذا الروائي سيفقد الأكراد اهم اعلامهم وسيشوب الظلام المشهد الثقافي الكردي. ان موته خسارة كبيرة.. نعم انه الخسارة..!
faruqmistefa@hotmail.com
* سوريا