أردوغان المفتون بالتاريخ مسكون، قبل كل شيء، بهاجس الجغرافيا الذي يرتبط عمليا بسعيه لمنع قيام أي كيان كردي يعتبره خطرا على أمنه القومي
يستعجل الرئيس التركي الدخول إلى الباب والرقة في سوريا، عينه على سنجار والموصل في العراق، وباله عند أكراد ديار بكر داخل تركيا، وهمه مواصلة التطهير ضد كيان فتح الله غولن، وفي خضم حربه العسكرية والسياسية على كل الجبهات لا ينسى رجب طيب أردوغان تتويج طموح مساره منذ عقدين من الزمن في تحويل النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي عبر استفتاء يفترض أن يمنح رئيس الجمهورية، التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك على أنقاض السلطنة، صلاحيات السلطان.
إزاء هذه الجملة من الرهانات والتحديات، لا تبدو طرق “السلطان الجديد” سالكة أو سهلة في إقليم ملتهب، أو في تركيا التي لا تزال تعاني من تداعيات الانقلاب الفاشل والقبضة الحديدية التي أعقبته. لكن سيد القصر في أنقرة يجد نفسه ملزما بسلوك درب المواجهة وإعادة النظر بالتحالفات على طريقة القفز على الحبل المشدود من أجل البقاء على المسرح دون أن يضمن سير السيناريو والخواتيم السعيدة.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، طراز مختلف من رجال الدولة والزعماء، وفي مطلق الأحوال لا يمكن ألاّ تبالي بضجيجه وبديناميكيته سواء كنت تحبه أو تكرهه، تؤيده أو تنتقده.
بدأت مغامرته الداخلية من رئاسة بلدية اسطنبول، إلى قيادة تحول في الحركة الإسلامية ما بعد نجم الدين أربكان أتاح لحزب العدالة والتنمية المحافظ والليبرالي أن يدخل “جنة” السلطة منذ 2002. في بدايات تدرجه وبالتعاون مع عبدالله غول وأحمد داوود أوغلو كانت هناك إنجازات على صعيد النهوض الاقتصادي والإصلاح، وترتيب العلاقة مع الأكراد، والمصالحة مع اليونان، والسعي لدور ريادي في الإقليم من خلال نظرية عدم التورط أي “صفر مشاكل”. لكن تركيا الأتاتوركية بدت “ضيقة” على الزعيم الذي ربما راقب باهتمام أسلوب جارته الكبرى إيران وسياستها الإقليمية وأذرعها من لبنان إلى غزة تحت يافطة مقارعة إسرائيل، ومن خلال تلك الوقفة في منتدى دافوس، في العام 2009 (عندما أخذ أردوغان الميكروفون من شمعون بيريز وكال له أقسى الكلام عن أوضاع غزة، ثم ترك المنصة وأعلن أنه لن يعود إلى دافوس بعد اليوم) سطع نجم أردوغان ونصبه الكثير من العرب بطلا بالوكالة.
وهذا الركوب على الموجة الشعبية أو الشعبوية، لا يعني عدم لعب أدوار في صميم الواقعية السياسية وما فيها من تلون وتبدل. من الجدير بالتذكير مساندة تركيا لموقف طهران في أزمة ملفها النووي، مقابل الاستفادة من عدم تطبيقها للعقوبات الغربية بحق إيران، ولا يغيب عن الذاكرة ذاك الرهان على العلاقة مع دمشق بشار الأسد. ومع انطلاق زمن “الخضات العربية” أو “الربيع العربي” نهايات 2010 سرعان ما ساند أردوغان في البداية نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا (وكان قد نال منه حديثا جائزة حقوق الإنسان وكانت العلاقات الاقتصادية متينة بين البلدين) ثم قال إنه فهم خطأ. بعدها ساند الحركة الاحتجاجية البحرينية وسمى قمعها بكربلاء ثانية، ثم أعلن لاحقا أنه أسيء فهمه. ثم عندما لاحظ وصول الإسلاميين إلى المواقع الأولى في تونس وليبيا ومصر، اعتقد أن ساعة زعامته للعالم الإسلامي دقت، وأخذ يُصعّدُ موقفه من المسألة السورية.
في كل هذه المحطات كان يعتبر أن “خدمة” تركيا هي هدفه أيا كانت الوسيلة. وتصرف على أساس أنه هو المؤهل لاستعادة أمجاد بني عثمان وربما عبر طمس إسهام أتاتورك، بالرغم من أنه كان “يملأ الدنيا ويشغل الناس”، و“في كل عرس له قرص”، وهو الذي “يهوى الخطابة ويطوع الكلمات وتجيش عنده العواطف مع القدرة على المزج بين الصراخ والحماسة والبكاء”. ولكنه أثبت بعد 15 يوليو الماضي أنه “سياسي داهية في وجه الخصوم والأصدقاء ومتحكم بلعبة مسرح وادي الذئاب”.
ليس من السهل التنسيق أو التوفيق بين اتجاهات متعددة ومتناقضة على الصعيدين الإقليمي والدولي: الانتماء إلى حلف شمال الأطلسي والصلات مع أوروبا (خصوصا ألمانيا) من جهة، والتطبيع المتسارع مع روسيا (من باب الطاقة بشكل رئيسي) من جهة أخرى، ويسري ذلك أيضا على العلاقة “القوية” اقتصاديا وعمليا مع إيران من جهة، والعلاقة “الحميمة” إستراتيجيا مع المملكة العربية السعودية من جهة أخرى.
وراء كل ذلك هناك وقائع الدورة الاقتصادية وحدود النفوذ الإقليمي ووقائع الميدان التي لا ترحم في العراق وسوريا أو في مواجهة حزب العمال الكردستاني في الداخل. من خلال هذه المناورات البهلوانية أحيانا لا تزال أنقرة قادرة على حماية مصالحها، لكن الفارق الكبير بين انتزاع ذلك بشق الأنفس أو بفرض الهيبة، وربما لشخصية أردوغان واندفاعاته أو استداراته (كما مع إسرائيل وروسيا) أو كلامه الانفعالي المستهجن مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وعدم احترامه الدولة العراقية بغض النظر عن تموضعها السياسي، دور كبير في مكاسب أو إخفاقات بلاده.
أردوغان شخص مثابر لا يكل ولا يمل في ممارسته اليومية للحكم، يتناغم عنده التوجه الديني كأيديولوجية معركة، والليبرالية الاقتصادية كمنهج للنجاح، لكنه لا يبدو أنه يقرأ جيدا في كتاب منطقة شعوبها عاطفية سريعة الحب، سريعة الكراهية، لكنها تملك ذاكرة قوية. والأهم أن أردوغان المفتون بالتاريخ مسكون، قبل كل شيء، بهاجس الجغرافيا الذي يرتبط عمليا بسعيه لمنع قيام أي كيان كردي يعتبره خطرا على أمنه القومي. واليوم مع احتدام المعارك من الموصل إلى شمال سوريا تقترب لحظة الحقيقة بالنسبة إلى الرئيس التركي، ففي العراق لا ترحيب إيرانيا بدوره في الموصل وهو يخشى من تمركز أكراد عبدالله أوجلان في سنجار.
وفي سوريا، بينما تتحرك قوات درع الفرات نحو الباب، يبقى مصير منبج مرتبطا بتخلي الأميركيين أو عدم تخليهم عن وحدات الحماية الكردية، وهكذا تصبح خطوط غرب أو شرق الفرات همايونية بالنسبة إلى معركة الرقة الفاصلة، حيث يبدو المايسترو الأميركي حائرا بالرغم من عروض السلطان. والأدهى أن الصديق الجديد فلاديمير بوتين يرمق دوما أردوغان ولا يقبل المزيد من امتداده واقترابه من منطقة نفوذه السورية.
وفي وسط هذه اللعبة يمكن أن تضيع حلب ضحية اللعبة الكبرى والمساومات القائمة. منذ قرن من الزمن أجبر كمال مصطفى أتاتورك كبار تلك الحقبة على تغيير معاهداتهم، ولذا يبدو التحدي كبيرا أمام رجب طيب أردوغان حتى لا يكون من الخاسرين في هذا القرن.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس