ليست الخروقات السورية ولا تدفق اللاجئين السوريين ما يجعل الشمال حزينا وعرضة للاستغلال السياسي. فمناطق عكار والمنيّة، ومعظم احياء مدينة طرابلس مناطق منكوبة، والبؤس الذي تعانيه لا يخفى على اي زائر. فالكآبة هي ما تطل من وجوه الناس قبل شوارعها المهملة، والعديد من ابنيتها التي لم تتخلص من آثار حروب طالتها منذ عقود. هذه المناطق التي شكلت في السنوات الماضية ولا تزال خزانا بشريا وقاعدة شعبية لتيار المستقبل وزعامة الرئيس سعد الحريري، هي الاكثر فقرا وبؤسا في لبنان، لكنها بدت الاكثر صلابة وتجاوبا مع نداء الخروج الى الشارع في وجه قوى 8 آذار وحزب الله. هكذا تقول الحشود في المناسبة السنوية الاخيرة لذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
هذا الشمال الذي يتصدر زعامته ويتنافس على كسب الزعامة فيه عدد من اصحاب المليارات، هو نفسه يتراجع انمائيا وخدماتيا ولا تهتز او تزول سياسة الاهمال، لتبقى متسيّدة كل السياسات المتنافسة والمتعارضة. عصبية “السنّة” وعنوان بأسها هي تلك المناطق المجبولة بالفقر والعوز والاهمال لكنها تبدو اليوم اكثر تلمسا لمآسيها، وما الحراك الاجتماعي والامني المتفلت من الوصاية في طرابلس وعكار، الا مؤشر وسط ادراك يترسخ ان من تولى رئاسة الحكومة نجيب ميقاتي وسعد الحريري. ولم ينجحا او يسعيا بجد لتنفذ مشاريع حيوية في هذه المحافظة على سبيل المثال لا الحصر: محطة تكرير النفط في البداوي، او مطار رينيه معوض، او معرض طرابلس الدولي، او مشاريع سياحية كبرى على امتداد الشمال، او مشاريع زراعية في عكار.
فالثلاثي المنهمك كل منهم بتعزيز ثروته الشخصية وثالثهم الوزير محمد الصفدي.. وغيرهم، يستمر كل على طريقته في الغرف من هذا الجمهور بسلاح واحد هو “العصبية”، غير آبه بيوم حساب انتخابي او سياسي، او بربيع شمالي لبناني يحاكي ربيع العرب. فالعدة السياسية جاهزة وسلاحها فعاّل وفتاّك، غير مكلف للعقل او الجيب، لا يتطلب غير استنهاض العصبية، وتكفي العصبية المقابلة كي توفر طاقة للاستنهاض، ولتنقل السياسة من كونها اشرف مهنة او ارقى فعل انساني، الى اسفل الدرك الاجتماعي.
تفسير البؤس الشمالي لا يقتصر على الاستسلام للعصبية المذهبية او الطائفية. ثمة تفسير آخر هو انكفاء الدولة بمعناها الحقيقي عن هذه المناطق، انكفاء عن كل الاطراف سواء اطراف الوطن او المدن. بهذا المعنى، يمكن ملاحظة ان الاشد بأسا في طوائفهم والاكثر التزاما وانشدادا الى عصبية طوائفهم، هم الاكثر بؤسا في هذه الطوائف وهم غالبا ابناء تلك المناطق. والبقاع الشمالي شيعيا وسنيا ومسيحيا، لا يختلف في جوهره عن عكار والمنية على هذا الصعيد. لكن ثمة تململا داخليا يأخذ ابعادا اجتماعية واخلاقية يمكن تلمسه بيسر في البيئة الشيعية في الضاحية الجنوبية والبقاع… سواء عبر مخالفات البناء باشكالها المختلفة ودلالتها، وامس كان مشهد لافت على صعيد اغلاق الطرقات بالاطارات المشتعلة في اكثر من منطقة.
في المعادلة الطائفية اللبنانية ومنطقها على هذا الصعيد ثمة قدرة – حتى الآن- للقوى الفاعلة في النأي بنفسها عن المسؤولية حيال الاهمال التنموي المتمادي لمناطق تعتبر خزانا للمقاومة حينا، وخزانا لحماة السيادة والاستقلال في مكان آخر. فاذا تساءل البعض عن معنى التقصير الفاضح في تنمية منطقتي البقاع والشمال على سبيل المثال لا الحصر، لسمع اجابتين لدى هؤلاء بعد ترهل وتداعي مقولة تحميل الاقطاع السياسي السابق المسؤولية. الاولى، ان الخصم السياسي الطائفي هو المسؤول. هكذا يتحول حزب الله وحركة امل الشيعيان في وعي محازبي “المستقبل” وتيار الوسط الى طرفين مسؤولين عن ادامة الاهمال بمنع قيام الدولة. وتتركز في الرئيس الحريري لدى ابناء بعلبك الهرمل من محازبي الثنائية الشيعية، من الأب الى الابن، هو المسؤول عن تقهقر احوال هذه المنطقة ومسؤولية عدم انجاز اي مشروع حيوي فيها. واللعبة هذه لا تبدو قابلة للاستمرار.
الانسداد الذي وصل اليه النظام السياسي وتجلياته في لبنان، ومع تعطل متزايد في المرحلة المقبلة لوظائفه الاقليمية الواحدة تلو الاخرى، مع توالي الثورات العربية، فان لبنان مقبل على انفجار ليس بالمعنى الاقليمي، بل بالمعيار الاجتماعي والاقتصادي، يعجل منه تراجع اولوية المواجهة مع الخارج العربي او الغربي وحتى الاسرائيلي، لصالح اولوية مواجهة الخلل السياسي والتنموي الفاضح الذي ما كان ليدوم الا بمظلة الشعارات الكبرى التي انتجت سلطات جديدة واغنياء جددا ومستغلين دوما.
الربيع في لبنان ليس قوى 14 آذار ولا الانظمة المستبدة هي 8 آذار… الربيع اللبناني هذه المرة يهبّ من الشمال ومن الشرق… رغم المكابرة لوأده من الجنوب.
alyalamine@gmail.com
* كاتب لبناني
البلد