بملامحها وملابسها المتطابقة مع ملامح وملابس نساء آسيا الوسطى من ذوات الثقافة التركمانية، وبشعرها الأشيب المجدل في ظفائر طويلة، وبقامتها الطويلة نسبيا، لا تختلف السيدة ربيعة قدير – التي ذاع صيتها منذ الاضطرابات التي وقعت مؤخرا في مقاطعة “شينغيانغ” الصينية – كثيرا عن قرينتها البورمية “اونغ سان سوتشي”. فعلى الرغم من بعض الفوارق المتعلقة بالجذور والمنشأ والمؤهلات العلمية والإرث السياسي ومنطلقات النشاط السياسي ومكانه، تظل ربيعة وسان سوتشي صوتا الأمل لشعبيهما، والمعبرتان عن طموحاتهما وحقوقهما.
وإذا كانت زعيمة المعارضة البورمية “أونغ سان سوتشي” قد وصفت ذات مرة بأنها فارسة الأمل، فان ربيعة قدير ترتاح للقب “أم الايغور” الذي أسبغها شعبها عليها كناية عن اعترافهم بجهودها في الخارج من اجل لفت أنظار المجتمع الدولي إلى قضية شعب لا يعرف عنه الكثير، بل تفضل هذا اللقب على لقب آخر هو “دالاي لاما شينغيانغ” الذي أطلقته عليها الصحافة الاجنبية منذ اجتماعها في الولايات المتحدة في عام 2005 بالزعيم الروحي لشعب التبت، واتفاقهما على تنسيق جهودهما إلى أن تعترف بكين باحترام حقوق جميع الأقليات.
وإذا كانت سان سوتشي تمارس النضال من داخل وطنها وسط ظروف صعبة وقيود مفرطة وممارسات قمعية من قبل الطغمة العسكرية الحاكمة في رانغون والتي لولا دعم حكام بكين لهم سياسيا واقتصاديا وفنيا لأنهار نظامهم منذ زمن بعيد، وتستند في نضالها والتفاف مواطنيها حولها على الإرث السياسي لوالدها الجنرال “اونغ سان” الذي طرد الاحتلال الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، ونجح على طريقة جورج واشنطون في خلع البزة العسكرية وانتزاع الاستقلال من المستعمرين الإنجليز بمهارة القائد السياسي، من بعد مفاوضات شاقة في أواخر الأربعينات، قبل أن يتم اغتياله قبل اشهر من جلاء الجنود البريطانيين عن بورما في عام 1948 ، فان ربيعة قدير اضطرت اضطرارا إلى النضال من الخارج مستندة إلى ارث واسم تكونا لها من خلال زج السلطات الصينية لها ولأولادها في المعتقل، وتعذيبها تعذيبا نفسيا، ومصادرة ممتلكاتها، وتشويه صورتها.
وعلى خلاف “سان سوتشي” المولودة في عام 1945 والمتخرجة من جامعة أكسفورد البريطانية الشهيرة، والحاصلة على درجات علمية من جامعات بريطانية وهندية أخرى في تخصص الفلسفة والسياسة والاقتصاد والتي اختارت بعد إكمال تعليمها أن تتزوج من شخص من غير مواطنيها هو البريطاني “مايكل أريس”، وتتنقل معه ما بين نيويورك وبريطانيا واليابان والهند، فان ربيعة قدير ولدت في يناير 1947 لأسرة متواضعة من مدينة “ألتاي” في شينغيانغ، ولم تكمل تعليمها بسبب فقر عائلتها – لذا فهي لا تجيد الإنجليزية وتعتمد في أحاديثها على مترجمين – وتزوجت في عام 1965 من احد مواطنيها لتنقل معه إلى مدينة “أكسو” في شينغيانغ مع بدايات ثورة “ماو تسي تونغ” الثقافية المجنونة التي أدخلت ربيعة وزوجها ونشاطهما في مجال بيع الملابس ضمن عملية التطهير الثقافي، الأمر الذي أدى إلى إفلاس ربيعة ماديا وطلاقها من زوجها، قبل أن تتزوج مرة أخرى في عام 1981 من أستاذ الجامعة المساعد “صديق روزي” وتنتقل معه إلى عاصمة شينغيانغ “أورومتشي”. لكن ربيعة كانت وقتها قد عرفت كيف تستفيد من حركة الإصلاح والانفتاح الاقتصادي في بلادها من اجل استعادة بعض مما سلب منها من ممتلكات في الحقبة الماوية. فأسست إمبراطورية أعمال شملت سلسلة من محال غسيل الملابس وسلسة أخرى من المتاجر الكبرى المتخصصة في تسويق الأزياء التقليدية، إضافة إلى العمل في مجال العقارات. وبالمثل عرفت ربيعة كيف تستفيد من انهيار الاتحاد السوفيتي و قيام جمهوريات آسيا الوسطى كدول مستقلة، وما رافق ذلك من نشاط تجاري عبر الحدود، لتؤسس المزيد من الشركات التجارية العاملة ما بين الصين وروسيا وكازاخستان. وهكذا لم يحل عام 1995 إلا وهذه السيدة تحتل المرتبة الثامنة ضمن أغنى أغنياء الصين بحسب تصنيف مجلة “فوربز” الأمريكية، وبثروة قيل أنها لا تقل عن 200 مليون يوان.
على أن هذه الثروة الكبيرة لم تنس ربيعة معاناة شعبها، بل أنها وظفت جزءا من أموالها في الأعمال الخيرية والمشاريع المحلية الصغيرة الهادفة إلى رفع الظلم والحيف والفقر عن مواطناتها من نساء الايغور، وتأمين حياة كريمة لهن، مثل مشروع “أمهات الألف عائلة”. ومن جهة أخرى ساهم نفوذها وحضورها الاقتصادي المذكور في لفت أنظار صناع القرار في بكين إليها، فتم منحها في عام 1993 عضوية الدورة الثامنة للمؤتمر الشعبي السياسي الاستشاري، ثم تم تعيينها كممثلة للصين في مؤتمر الأمم المتحدة الرابع للمرأة في بكين في عام 1995 . إلى ذلك اسند إليها منصب نائب رئيس اتحاد الصناعة والتجارة في مقاطعة الحكم الذاتي لشينغيانغ، ورئيسة جمعية سيدات الأعمال في شينغيانغ.
ولعل ما ذكرناه في الجزئية الأخيرة يبين مدى اختلاف تعامل النظام الصيني مع ربيعة قدير عن تعامل النظام البورمي مع “اونغ سان سوتشي” فالأخيرة لم تنل من نظام بلادها منذ عودتها إلى بورما على عجل في عام 1988 للمكوث إلى جانب والدتها المشرفة على الموت، سوى سلب حريتها وقمع أنصارها وحرمانها من ابسط الحقوق الآدمية، بما في ذلك حرية التنقل والاتصال بالخارج والالتقاء بالأهل والأصدقاء.
وإذا ما عدنا لاستكمال مسيرة ربيعة، نرى أنها – رغم ما راكمته من ثروات وما حظيت به من مناصب رسمية – فقد آثرت برغبتها وإرادتها ألا تصمت حينما شاهدت قمع السلطات بوحشية للمئات من شباب الايغور في مدينة “غولجا” في عام 1997 ، فكانت انتقاداتها المتتالية للنظام ومطالباتها الملحة بإتباع سياسات مختلفة جذريا، سببا في انزعاج بكين منها، واتخاذ الأخيرة لقرار طردها من عضوية مجلس الشعب الوطني و إلغاء حصانتها ومصادرة جواز سفرها، كيلا تلتحق بزوجها “صديق روزي” الذي كان قد غادر الصين إلى الولايات المتحدة دون موافقة بكين، مما جعل الأخيرة تجبر ربيعة على الطلاق منه رسميا.
وفي أغسطس 1999، وبينما كانت ربيعة في طريقها لمقابلة وفد من الكونغرس الأمريكي مكلف بالتحقق من الأوضاع في شينغيانغ، القي القبض عليها بتهمة القيام بأنشطة انفصالية تهدد الأمن الوطني، وذلك في إشارة إلى قائمة لأسماء أكثر من 10 معتقلين قيل أن ربيعة كانت تحملها معها لتقديمها إلى الأمريكيين. بعد إلقاء القبض عليها، قدمت ربيعة إلى المحاكمة في عام 2000 ، وصدر حكم عليها بالسجن لمدة 8 سنوات – سنتان منها في الحبس الانفرادي. غير أنه بسبب ارتفاع أصوات منظمات حقوق الإنسان الغربية و ضغوطات إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، تم إطلاق سراح ربيعة قبل انقضاء مدة محكوميتها بسنتين. و كانت خطوة ربيعة التالية هي مغادرة الصين إلى الولايات المتحدة للسكن في فرجينيا بجانب زوجها، والعمل من هناك سويا من خلال ما يعرف بالمجلس العالمي للايغور، من اجل رفع الاضطهاد والظلم الواقع على مواطنيهما المسلمين، ناهيك عن الضغط على بكين حتى تفرج عن أولادهما الذين تعرضوا إلى مضايقات كثيرة منذ إطلاق سراح والدتهم، بل تم اعتقال 3 منهم (ابليكيم وعليم وقهر) في مايو 2006 قبل أن يطلق احدهم ويوضع تحت الإقامة الجبرية، كحال أخته “روشانغول” التي تعيش في الصين لكن تحت المراقبة والإقامة الجبرية أيضا.
وربما في المقطع الأخير من المقال، الكثير مما تتقاطع فيه سيرتا الامرأتين البورمية والايغورية. حيث تزامنت عودة “اونغ سان سوتشي” إلى بلدها في عام 1988 من بعد غياب طويل مع اندلاع مظاهرات تطالب بالديمقراطية شارك فيها الملايين من البورميين وقمعتها السلطات الحاكمة بوحشية ورعونة مخلفة آلاف القتلى. وإزاء هذا المشهد الرهيب، لم تتحمل سان سوتشي ما حصل فأطلقت في 8 أغسطس 1988 ما سمته بحرب الاستقلال الثانية. تلك الحرب التي وضعتها في مواجهة 400 ألف جندي تقودهم حفنة من الجنرالات القساة الذين لم يفعلوا شيئا للبورميين منذ إطاحتهم بالحكم الديمقراطي في عام 1962 سوى بث الرعب والخوف في نفوس أكثر من 48 مليون مواطن، فضلا عن احاطتهم بستار حديدي كيلا يتعرفوا على ما يحصل خارج بورما من تطورات سياسية واقتصادية وتكنولوجية. وكنتيجة لجرأة هذه السيدة في التعبير عن مطالب شعبها في الحرية والديمقراطية والانفتاح، وعدم قبول بالمساومات والاغراءات، وضعت سوتشي منذ عام 1990 قيد الإقامة الجبرية في منزلها في رانغون – باستثناء فترات قليلة جدا – ومنع عنها الاتصال بالعالم الخارجي. كما تعرض أنصارها في “الرابطة الوطنية للديمقراطية” إلى الاعتقال والضرب والتعذيب الجسدي والنفسي كيلا يتجرأوا و يطالبوا مجددا بتفعيل نتائج انتخابات عام 1990 التي فازوا فيها وألغاها العسكر.
الحال – أنه كما في نموذج ربيعة قدير – لم تنل حرب الأعصاب التي مورست ضد سوتشي من معنوياتها وطموحاتها كما لم يضعف ذلك من تيارها السياسي. فرغم سؤ التغذية الذي عانته في المعتقل والذي كان سببا في نقصان وزنها وتساقط شعرها واصفرار وجهها واضطرارها إلى بيع أثاث منزلها لشراء الطعام، كانت سوتشي لا تكف عن بعث الأمل في مواطنيها من خلال خطبها وإطلالتها عليهم من سطح منزلها، علاوة على ابتكارها طرقا لإيصال صوتها إلى العالم الخارجي من بلد يعتبر فيه استعمال الانترنت والهواتف الخليوية جريمة يعاقب عليها القانون.
وسوف تتطابق صورتا المناضلتين أكثر لو حصلت ربيعة – كما صار يتردد اليوم – على جائزة نوبل للسلام، التي منحت لسوتشي في عام 1991 تقديرا لصلابتها في مقاومة الديكتاتورية وانتهاك حقوق الإنسان.
وأخيرا فان المقارنة بين السيدتين لن يكون لها معنى وبالتالي سيكون كل ما أوردناه في السطور السابقة لاغيا لو ثبت أن المجلس الأعلى للايغور الذي تتزعمه ربيعة لها صلة ما بالجماعات الإرهابية الايغورية المنطلقة من الدول المجاورة للصين. ذلك أن أجمل ما في سيرة “سوتشي” انه لم يثبت سوى استخدامها للأسلوب الغاندي في مقاومة جلاديها.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين