الكثير من شباب ثورة 25 يناير الواعي المثقف يحتفظ في وجدانه بمكانة خاصة لشاعر ثورة يوليو 52 المبدع المصري الجميل صلاح جاهين، الذي رحل في 21 أبريل 1986. وهناك بعض الفرق الفنية من الشباب تلقي أشعاره وتستلهم أغانيه وأناشيده في عروضها الموسيقية الموسيقية، وهكذا يظل هذا الشاعر الفنان الفذ الذي شكل وجدان جيل كامل في الخمسينيات والسيتينيات من القرن الماضي حاضراً يشكل وجدان الجيل التالي الذي قام بالثورة المصرية الجديدة، فما الذي لا يفنى في أعمال صلاح جاهين؟
كتبت منذ سنوات محللاً ظاهرة صلاح جاهين وأعيد هنا النظر من جديد في هذه الظاهرة المصرية الثورية والفلسفية الحميمة لنستضيء بها في مسيرة ثورتنا الجديدة.
لا تستطيع أن تستحضر للذاكرة العبقرى المبدع صلاح جاهين (1930-1986) الا وتحضر معه بالضرورة كوكبة من المبدعين الذين زاملوه واشتركوا معه فى صنع السيمفونية الباهرة للثقافة والفنون والفكر التحررى المثير فى عصر مصر الذهبى فى الخمسينات والستينات من القرن العشرين. فيحضر معه بالضرورة زميلاه الشاعران أحمد عبد المعطى حجازى وصلاح عبد الصبور وكان الثلاثة يعملون فى غرفة واحدة تضم مكاتبهم الثلاثة فى دار روز اليوسف ويقول حجازى: “كان جاهين أكثرنا نشاطا ومرحا وحضورا، كان يرسم وينظم بالعربية وكان احيانا يغنى بعض الأغنيات الاسبانية من تراث الحرب الأهلية، بالاضافة الى أغنيات روسية، وفى تلك الغرفة سمعت من صلاح جاهين معظم أغنياته التى نظمها فى الخمسينات وأوائل الستينات :ويقول حجازى انه رغم بدانة جاهين فإنه هو الذى علمه رقصة الفالس! ويقول حجازى: “لم يكن صلاح جاهين صوتا بسيطا مفردا، وإنما كان مجمع أصوات، كان صوت مصر وصوت البشرية، صوت الجماعة فى الواقع وفى الحلم معا، صوت جماعة ناهضة حرة متقدمة سعيدة منتمية لحضارة العصر مشاركة فى صنعها. فصلاح جاهين ليس ثمرة تراث قومى مغلق وانما هو ثمرة التراث القومى والتراث الانسانى، وهو يدين للوركا وبول إيلوار بقدر مايدين لشوقى وبيرم التونسى.”
ومن المفيد هنا مقارنة الصلاحين عبد الصبور وجاهين فشاعر مصر الكبير صلاح عبد الصبور هو المقابل المخالف المضاد لصلاح جاهين ربما فى كل شئ، روحا وجسدا، شكلا وموضوعا، فعبد الصبور هادئ حزين متشائم، يكتب بالفصحى شعرا للنخبة المثقفة عاكسا ثقافة عالمية نخبوية، بينما جاهين صاخب مرح متفائل يكتب بالعامية لعامة الشعب شعرا وغناء يفوح برياحين صبايا القرى وأحلام رجل الشارع وتعبه اليومى، دون ان يتخلى عن عمق انسانى فلسفى بالغ التأثير. ولايشترك “الصلاحان” – جاهين وعبد الصبور- سوى فى أن كليهما استطاع ان يؤثر تأثيرا حاسما على جيله فى مجال ابداعه. فيمكن القول أن عبد الصبور قد شكل الذائقة الشعرية والوجدانية لجيل مصرى كامل بقصيدة واحدة هى “احلام الفارس القديم”، والتى اعترف بعض رواد الشعر فى الجيل التالى أنهم كانوا يجوبون طرقات القاهرة ليلا منشدين المقاطع الشهيرة لهذه القصيدة بصوت مرتفع.
وبينما قام عبد الصبور بتشكيل الذائقة الشعرية لجيل كامل من الشعراء من بعده، قام جاهين بتشكيل الذائقة الوجدانية لجيل الثورة بأكمله، شعراء وفقراء وبسطاء وعمالا وفلاحين وموظفين وعاشقين وحالمين. من هنا تأتى أهمية هذا الشاعر الشعبى العظيم، ولهذا أقوم بالمقارنة بينه وبين صلاح عبد الصبور، فبينما نال عبد الصبور تقديرا كبيرا مستحقا فى الوسط الثقافى المصرى، فإن جاهين فى اعتقادى لم ينل مايستحقه من تقدير يناسب انجازاته الهائلة فى ميادين الابداع المتنوعة التى طرقها، من الرسم الكاريكاتورى الى شعر العامية والزجل والاغنية والأشعار المسرحية والسينمائية والفوازير التليفزيونية ومسرح العرائس والسيناريو السينمائى فضلا عن الأناشيد الوطنية التى صنع منها جاهين فنا جديدا قائما بذاته.
شاعر الثورة
بينما أجد بعض النقاد يطلقون على صلاح جاهين لقب “مغنى الثورة” لأن كل ما كتبه كان يتحول الى أغنيات ثورية شعبية بصوت فنان الثورة عبد الحليم حافظ بألحان الموسيقار الفريد كمال الطويل، وربما مع بعض التردد فى اطلاق لقب شاعر الثورة عليه، فى ميل للإحتفاظ بلقب شاعر لمن يكتبون بالفصحى، الا أننى لا أجد أى محل للتردد فى وصف جاهين بشاعر ثورة يوليو. فهو وحده من استطاع ان يترجم مشاعر وأحلام وأفراح ملايين المصريين الى كلمات حية متوثبة مليئة بالدفء والزهو والنشوة. فبينما كتب عبد الصبور وحجازى بعض القصائد الفصحى المعبرة عن بعض جوانب تلك الفترة، فإننا لا نجد فى قصائدهم تلك حرارة ولهفة وصدق المشاعر اللافحة التى نجدها فى كلمات جاهين، كما وكيفا. ولعل من المفارقة أن القصيدة الوحيدة الدافئة الحس المرهفة الصدق التى كتبها حجازى فى تلك المرحلة بأسرها هى قصيدته العميقة فى رثاء عبد الناصر “مرثية الزمن الجميل” بينما –على العكس- كان رحيل عبد الناصر هو نهاية مرحلة الشعر الثورى لدى جاهين.
فى أشعاره “الثورية” لم يكتب جاهين شعارات باردة جوفاء بل استطاع أن يغوص فى أعماق الانسان المصرى المتطلع الى عالم أفضل ليستخرج منه بكلمات عامية بسيطة وبليغة فى آن واحد، أجمل ما فيه من أغنيات ومزامير راح ينثر بها البهجة والفرح الحقيقى بالفجر البهى القادم على الأفق. لم تكن فى كلماته أية ظلال لافتعال سياسى أو تعبوى، بل كانت مشاعر عفوية صادقة ترقص فى قلبه المتفائل المحب للحياة فتتحول عبر شاعريته الأصيلة الى أناشيد للفرح والحب واللهفة المتوثبة. ولأن هذه المشاعر كانت تعبيرا صادقا عن الوجدان المصرى الجارف فى تلك المرحلة، لم يكن صعبا على مبدع مرهف آخر مثل كمال الطويل أن يضع لها ألحانا نابعة من عمق الوجع المصرى الطويل وصاعدة فى نبرات متسرعة لاهثة فرحة متشوقة للغد الأجمل الذى وعدت به القلوب الفائرة الثائرة.
وبهذا الصدق والفرح والتفاؤل كتب جاهين –وغنى عبد الحليم- أناشيد إحنا الشعب (56) وبالأحضان (61) والمسئولية (63) ويا أهلا بالمعارك (65) وصورة وناصر وغيرها. وكان من المدهش حقا إستقبال الجماهير لهذه الاناشيد وتجاوبها معها حفظا وغناء وكأنها أغنيات فى الحب والصبا والجمال وليس فى الثورة والحرية والكرامة بل والسياسة الاقتصادية (على راس بستان الاشتراكية/ واقفين بنهدس ع المية/ أمة أبطال/ علما وعمال / ومعانا جمال..)
مزامير الحب والبهجة
فى نفس الوقت الذى كان يكتب فيه جاهين هذه الأناشيد الوطنية الشعبية الواعدة، كان يكتب أيضا مزامير الزهور والحب والبهجة . فهو عاشق للحياة يحبها بحس شاعر ونزق طفل وتهور شاب مقبل على مباهج الأحلام المنتظرة فى فرح حقيقى. ان علاقة جاهين بالفرح علاقة أساسية حميمة.
يقول فى رباعياته الشهيرة:
أنا اللى بالأمر المحال إغتوى
شفت القمر نطيت لفوق فى الهوا
طلته ما طلتوش إيه انا يهمنى
وليه مادام بالنشوة قلبى ارتوى
عجبى
ويقول فى رباعية أخرى:
فتحت شباكى لشمس الصباح
ما دخلش منه غير عويل الرياح
وفتحت قلبى عشان أبوح بالألم
ما خرجش منه غير محبة وسماح
عجبى
وفى تأكيد على أهمية الفرح العام الجهورى المعلن يقول:
كرباج سعادة وقلبى منه انجلد
رمح كأنه حصان ولف البلد
ورجع لى نص الليل وسألنى ليه
خجلان تقول أنك سعيد يا ولد؟
ويقول فى شعر الغزل والشقاوة والمحبة:
يا بنت يام المريله كحلى
يا شمس هااله، وطاالله م الكوله
لو قلت عنك فى الغزل قوله
ممنوع عليا والا مسموح لى؟
وفى رباعية غزلية آخرى يقول:
أوقات افوق ويحل عنى غبايا
واشعر كأنى فهمت كل الخبايا
أفتح شفايفى عشان اقول الدرر
ما قولش غير حبة غزل فى الصبايا
عجبى
مسئولية الكلمة
يعرف صلاح جاهين مسئوليته كمبدع وكشاعر. كثيرا ما يشير الى الصمت فى شعره كمرادف للموت، ويشير الى الكلمة كمرادف للحياة. يقول فى قصيدة بعنوان “اتكلموا”:
اتكلموا.. اتكلموا.. اتكلموا
محلا الكلام، ما ألزمه، ما أعظمه
فى البدء كانت كلمة الرب الاله
خلقت حياه والخلق منها اتعلموا
فإتكلموا
الكلمة ايد الكلمة رجل الكلمة باب
الكلمة لمبة كهربية فى الضباب
الكلمة كوبرى صلب فوق بحر العباب
الجن يا أحباب ما يقدر يهدمه
فاتكلموا
وفى رباعية جميلة يقول:
يا عندليب ماتخافش من غنوتك
قول شكوتك واحكى على بلوتك
الغنوه مش حتموتك…… إنما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك
وعن أهمية الكلمة المضيئة والألم الذي تسببه لمن يقولها بصدق يقول:
عجبتني كلمة من كلام الورق
النور شرق من بين حروفها و برق
حبيت أشيلها ف قلبي .. قالت حرام
ده أنا كل قلب دخلت فيه اتحرق
فيلسوف الفقراء
ينفرد جاهين بخاصية هامة تمنح شعره –على بساطته وعاميته- بعدا فلسفيا لا نعرف له مثيلا لدى شعراء العامية الآخرين بل ولا نعرف له مثيلا لدى شعراء الفصحى المصريين، فيما عدا رفيقه صلاح عبد الصبور الذى إتسمت معظم أشعاره بأبعادها الفلسفية والانسانية الشاملة.
وهنا أيضا –وعلى الأخص- لم يحصل جاهين على حقه من التقدير، بسبب النظرة العدائية من الوسط الثقافى النخبوى للعامية، وربما بسبب التحيز للفصحى والخوف عليها، مع قدر من عدم التصديق لإمكانية ان تقول العامية الدارجة معان تقرب من مدار الفلسفة المقدس. ولكن لا يصح أن يمنعنا مثل هذا الموقف الاستعلائى الزائف والخائف من أن نخوض فى رفق وحدب فى أعماق أشعار جاهين لنكتشف ما بها من جواهر فكرية ووجدانية بديعة. فإنك لتجد فى رباعياته أصداء لفلسفة سارتر الوجودية ولمواقف ألبير كامو فى اغترابه ولجرأة نيتشه الذى لم تكن فلسفته سوى شعرا مكثفا. بالإضافة الى نهل جاهين من التراث الفلكلورى المصرى والعربى الاسلامى والمسيحى. ومزجها كلها فى صوت صادق متفرد هو صوته وحده. ولننظر الى بعض رباعياته التى يمكن اعتبار كل رباعية منها أطروحة فلسفية كاملة تطرح كل منها أحد الأسئلة الوجودية الهامة فى تصوير بالغ الإيجاز والإيحاء والدهشة:
عيد والعيال اتنططوا ع القبور
لعبوا استغماية ولعبوا بابور
وبالونات ونايلونات شفتشى
والحزن ح يروح فين جنب السرور!
عجبى
الدنيا صندوق دنيا.. دور بعد دور
الدكة هى .. وهى كل الديكور
يمشى اللى شاف ويسيب لغيره مكان
كان عربجى أو كان امبراطور
عجبى
أنا شاب لكن عمرى ولا ألف عام
وحيد ولكن بين ضلوعى زحام
خايف ولكن خوفى مني أنا
أخرس ولكن قلبى مليان كلام
عجبى
علمى ان كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقائق والشهور والسنين
تلاقى ناس أشرار وناس طيبين
عجبى
وكان هذا الفيلسوف الجميل مفتوح القلب سريع البديهة. وأذكر اننى استمعت اليه مرة فى برنامج إذاعى اسمه “جرب حظك” سأله فيه مقدمه: من فى رأيك أعظم رسام كاريكاتير فى العالم؟ فأجاب جاهين الذى كان بدينا، قصيرا، أصلعا، وكأنه كرة ضخمة: الحقيقة أنى كل ما بصيت فى المراية عرفت ان ربنا سبحانه وتعالى هو أعظم رسام كاريكاتور فى الدنيا ! فانفجر الجمهور ضاحكا.
عالمى النزعة
رغم أن صلاح جاهين كان يغني للاشتراكية فى إخلاص المثقف المنتمى للفكر اليسارى المنحاز للفقراء والبسطاء بشكل أساسى، الا انه كان مثقفا وليس أيديولوجيا منغلقا. ومازلت أذكر أنه فى اليوم التالى لإغتيال الرئيس الامريكى الشاب جون كيندى فى عام 1963 فوجئت فى جريدة الاهرام التى كانت تنشر لجاهين رسما كاريكاتوريا شهيرا كل يوم أنها تنشر له قصيدة رائعة فى رثاء الرئيس الامريكى أذكر جيدا أنه ختمها وهو يهتف ملتاعا باسم الرئيس الامريكى قائلا: يا جون.. يا يوحنا المعمدان! وقد أثرت فى نفسي هذه الخاتمة المدهشة للقصيدة. ولم أفهم للوهلة الاولى لماذا يخاطبه بيوحنا المعمدان. اذ كنت مازلت طالبا فى ذلك الوقت. ولم يكن فى ذهنى أن جون هى بالعربية يوحنا. فكانت هذه المقاربة الجميلة فى القصيدة والتى تدل على انفتاح جاهين السياسى والدينى معا. فلم تمنعه يساريته الفكرية من التعاطف مع رئيس امريكى شاب كان مثقفا ثقافة انسانية حقيقية وقف أمام نفوذ التحالف الصناعى العسكرى فى بلده واشاع فى العالم كله أملا فى مستقبل اجمل.. ولا منعته ثقافته الاسلامية من معرفة واستخدام رمز مسيحى شهير هو يوحنا المعمدان الذى كان يوصف بالصوت الصارخ فى البرية لقوته وشجاعته فى المجاهرة بالحق حتى أوصله هذا الى تقديم رقبته على طبق هدية لسالومى من الملك هيرودس أنتيبى الذى صرخ فى وجهه يوحنا المعمدان يوما: هذا لا يحل لك!
فرسان الثورة
إستطاعت الثورة المصرية منذ ولادتها وبسبب اهتمام عبد الناصر بالثقافة والفنون والأدب أن تخلق مناخا إجتماعيا مثيرا لعوامل الابداع الانسانى فى جميع المجالات.. وانطلقت مع بداية الثورة وبشكل تلقائى مدهش شرارة الخلق والابداع الفنى والفكرى فى عدد هائل من الشباب المثقف الصاعد من قرى ونجوع مصر الزاحف نحو القاهرة والاسكندرية. فإذا بمئات ومئات من المبدعين تتصاعد أنجمهم فى سماء مصر حاملين رايات ملونة زاهية لأعمال جديدة مدهشة فى كل مناحى الابداع. أرصد هذا لأوضح أن صلاح جاهين –وان كان حقا صوتا متفردا مميزا فى الشعر وفنانا مبدعا فى الرسم وغيره من الفنون – لم يكن وحيدا وانما كان واحدا من “جيش” مدهش من المبدعين المجددين الذين استقوا من ينابيع الجسد المصرى المتفجر بإرهاص الولادات الجديدة ووعود الأحلام المثيرة القادمة فى فورة إبداعية نعرف الآن أنها كانت –للأسف- إستثنائية فى تاريخ مصر المعاصر.
وقد كان لجاهين شاعر الثورة المصرية وواضع مزاميرها الجماعية المحفزة أثر كبير فى حركة النهضة الفكرية التحررية المواكبة، فقد راح فى رسومه وكلماته وأناشيده وأشعاره يرسم ملامح المجتمع الحر القادم فى عيون شباب وصبايا يعانقون أحلام الحب الجميل والحرية الاجتماعية والتحرر الفكرى البادئ بالذات والممتد نحو الانسان فى كل مكان.
وكان لهذه الفورة الابداعية والتفجر الغنى المثير فعل السحر فى الشباب المثقف الصاعد الى حد أنه حتى المثقفين الذين دخلوا السجون فى تلك الفترة بشبهة الميول الشيوعية او اليسارية المتشددة خرجوا منها وهم على إخلاصهم العجيب للثورة التى لم تتورع عن التهام عدة سنوات من شبابهم الحالم، وهى ظاهرة لا نعرف لها مثيلا فى التاريخ.
هل خان نفسه؟
حينما أصيبت الثورة المصرية بجرح هزيمة 67 الغائر، ثم برحيل فارسها عبد الناصر عام 70، شاهد جاهين كل شئ ينهار من حوله، فأصاب شاعر الثورة احباط الانكسار ودخل فى صمت المطعون المكلوم. ومع صعود الرئيس “المؤمن” – الذى كان معروفا طوال سنوات الثورة بأنور السادات لنكتشف فجأة ان اسمه هو محمد انور السادات!- أطلقت الاشارة لبدء حركة الهجوم الوحشى والتشويه المجانى لكل جوانب الثورة، المظلم منها والمضئ معا. حتى أن السد العالى نفسه – الذى أعترف العالم انه أهم عشرة مشاريع هندسية فى العالم فى القرن العشرين – لم يسلم من حملة التشويه الآثمة لإنجازات الثورة.
ولم يجد شاعر الثورة له مخرجا من نفق الاحباط وظلمة الاحساس بالغبن والضياع وربما لوم الذات وانكار الحلم بل ومعاداته سوى الدخول الى دوامة العمل السينمائى السهل فى حركة هى أقرب الى حركات مهرج السيرك الذى يضحك الآخرين بقلب نازف – فكتب لصديقة دربه سعاد حسنى اغنيات فيلمها “خلى بالك من زوزو” الذى حقق نجاحا جماهيريا ساحقا، بين جماهير متغيرة كانت قد تعبت من وطأة احلامها طوال عشرين عاما، وتعبت من الحروب والمعارك والأناشيد، وأرادت ان تنسى وترقص وتلهو على أنغام تقول لها أن “الدنيا ربيع، والجو بديع، قفلى على كل المواضيع”. وهكذا نظر بعض المثقفين فى حزن الى شاعر الثورة وفارسها القديم وقد انكسرت قوادم أحلامه (كما تنبأ صلاح عبد الصبور) وتحول مغنى الجماهيرالى مضحكها . وهو دور استنكروه عليه ولكنه لم يستنكره على نفسه. فقد كان دائما منحازا الى الجماهير البسيطة يعبر عن أحلامها وآمالها وعن ضحكاتها وأوجاعها. ولم يجد غضاضة فى أن ينحاز اليها فى لهوها ومزاحها وهو المنحاز أبدا للفرحة والبهجة.
وقد أراد له –وتوقع منه- البعض ان ينخرط –وهو شاعر الثورة- فى حركة المعارضة الشعبية والطلابية لنظام السادات قبل حرب العبور كما فعل أحمد فؤاد نجم بأشعاره الجارفة التى لحنها وغناها الشيخ امام والتى دخلا السجون بسببها. ولكن جاهين لم يفعل ولم يكن له أن يسير فى درب غير دربه. فعالمه الشعرى ليس عالم احتجاج ومعارضة ضد النظام، فقد كان منسجما مع النظام الناصرى الذى كان منسجما مع أحلام الفقراء وآمال المثقفين معا. وجاهين المنحاز للفرح فى الحياة لم يجد فى نفسه طبيعة الصدام والمعارضة والهجوم على الآخرين. بما فى هذه من العنف العاطفى والخشونة الوجدانية الضرورية للتحمل والصمود . نعم هو شاعر الحلم الثورى لكنه ليس شاعر الغضب والتصدى والتعدى. ولذلك كانت لأناشيده الثورية دائما جانب الأعراس المحفوفة بالأجراس والمزامير والرقصات الشعبية، فليدع التصدى والمقاومة والغضب الشعبى لغيره من الشعراء مثل نجم. فهل كان فى هذا خائنا لنفسه أم متسقا معها؟
لاشك أن هذا سؤال سيستدعى إجابات متناقضة من نقاد مختلفين. اما أنا الذى طالما أترعت قلبى مما كان يسكب لنا جاهين كل يوم من مياه المحبة والبهجة والأمل المثير، فليس عندى له سوى فيضان من مشاعر العرفان والممنونية والإنحياز الحميم.
ولعل أجمل ما يعبّر عن حالة جاهين تلك بعد أنهيار أحلام الثورة التى شارك فى صنعها هى رباعيته التى كتبها عندما أصابه انسداد فى شرايين القلب احتاج الى جراحة فى صيف 1981:
يا مشرط الجراح أمانة عليك
وانت فى حشايا تبص من حواليك
فيه نقطة سودة فى قلبى بدأت تبان
شيلها كمان.. والفضل يرجع اليك.
لقد كانت النقطة السوداء قد احتلت قلبه الكبير وراحت تكبر فيه وتنهشه هى نفسها النقطة التى اصابت قلب مصر مع جرح 67 ومع رحيل ناصر وانهيار احلام الجيل الصاعد وتسليم السادات مفاتيح مصر للتيارات الدينية الظلامية التى أطفأت مصابيح مصر واحدا بعد الآخر وحاربت الفن والفكر والابداع والتحرر والمساواة والفرح والبهجة والانطلاق والغناء والرقص والمزامير، فكانت هى الخاتمة السوداء لاحدى أجمل فترات النهضة المصرية فى تاريخها الحديث.
سيظل جاهين صوتا مميزا مزهوا فى الوجدان المصرى الى الأبد.
فالشاعر الاصيل لايعرف موتا ولاصمتا. وهو الذى قال:
دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت
وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت
وحاجات كتير بتموت فى ليل الشتا
لكن حاجات أكتر بترفض تموت.
نعم “حاجات أكتر بترفض تموت” ومنها كلمات جاهين وابداعاته الخالدة التي عبرت تعبيراً صادقاً حميماً عن الروح المصرية التي لا تموت والتي انطلقت في ثورة جديدة لا شك أن روح جاهين تنشد لها اليوم أناشد الفرح والأمل الجميل.
شاعر من مصر يقيم في نيويورك
fbasili@gmail.com