بعد شغور موقع الرئاسة في لبنان لأكثر من عاميْن، اجتمع البرلمان اللبناني في 31 تشرين الأول/أكتوبر وانتخب ميشال عون، أحد أبرز الشخصيات المسيحية المارونية، رئيساً. وكان سلفُهُ، القائد السابق للجيش اللبناني العماد ميشال سليمان، قد أنهى فترة رئاسته التي دامت ست سنوات في أيار/مايو 2014 غير أن مجلس النواب لم يكن قادراً على التوصل إلى توافق في الآراء بشأن خليفته بسبب الانقسامات الطائفية (ومعظمها بين السنّة، والشيعة، والمسيحيين) واصطفافات أجنبية متنافسة (سواء مع المملكة العربية السعودية السنية أو إيران الشيعية).
ولطالما كان عون شخصية مثيرة للجدل في لبنان. فبعدما كان من أبرز المعارضين السياسيين للنظام السوري في البلاد، تحالف مع نظام الأسد منذ عام 2005 وحليفِهِ الأبرز في لبنان، ميليشيا «حزب الله» الشيعية المدعومة من إيران. ويمثّل القرار المتخذ في 31 تشرين الأول/أكتوبر نصراً لافتاً حقّقه الجنرال الثمانيني الطموح ولكنه يشير في الوقت نفسه إلى واقعية جديدة في أوساط معارضيه السياسيين – أو ما يسمى بـ«تحالف 14 آذار» الذي اعترض على ترشحه لعقد من الزمن. وعلى الرغم من أن الكثيرين قد رحّبوا بما قد يكون الحل للركود السياسي الناتج عن الفراغ الرئاسي، فإن السؤال الرئيسي هو ما إذا كان الاتفاق على انتخاب عون يعني أيضاً زيادة النفوذ الإيراني.
في أحضان سوريا
حين كان الجنرال عون قائداً للجيش اللبناني عند انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، عارض عسكرياً الهيمنة السورية و”اتفاق الطائف” الذي أنهى الصراع لكنه حدّ من الصلاحيات السياسية للمسيحيين. وفي عام 1990، وبعدما احتل السوريون لبنان، اتخذ عون من فرنسا ملجأً له ليعود في عام 2005 إلى وطنه لدى انسحاب السوريين، طامحاً بمنصب رئيس الجمهورية. غير أن آماله تبدّدت عندما اعترض على ترشحه زعماء كل من السنّة والمسيحيين والدروز الذين شكلوا «تحالف 14 آذار» الموالي للغرب/المناهض لسوريا.
وعندما قُطع طريقه إلى الرئاسة، وقّع حزب عون – «التيار الوطني الحر» – مذكرة تفاهم مع «حزب الله» في شباط/فبراير 2006 ليشكّلا بذلك قوة سياسية موازنة لـ «تحالف 14 آذار». وقد حمل التحالف بين القوى المسيحية التي يضمّها تيار عون و«حزب الله» اسم «تحالف 8 آذار»/«قوى 8 آذار»، ومنذ ذلك الحين أصبح الجنرال حليفاً قوياً للحزب الشيعي وراعيه الإيراني.
وبعدما فاز «التيار الوطني الحر» بالعدد الأكبر من المقاعد بين الأحزاب المسيحية في الانتخابات النيابية عامي 2005 و2009، أيّد باستمرار أجندة طهران في لبنان، ودعم نظام الأسد، وأصبح يُعتبر على نطاق واسع لاعباً طائفياً معادياً للطائفة السنّية في لبنان التي تضمّ نحو 35 في المائة من الشعب اللبناني. غير أنه بعد انقضاء عامين من دون رئيس، واجه الزعيم السني لـ «تحالف 14 آذار» سعد الحريري خياراً غير مستساغ بين النائب الموالي لسوريا سليمان فرنجية وعون. وفي بادئ الأمر اختار الحريري فرنجية لكن شريكه في التحالف رئيس حزب «القوات اللبنانية» المسيحي سمير جعجع عطّل هذا القرار ودعم في خطوة مفاجئة غريمه السياسي المسيحي ميشال عون. ونظراً إلى قرار جعجع ونتائج الانتخابات البلدية في أيار/مايو، التي فاز فيها الشريك السابق في التحالف أشرف ريفي بحملة محلية مناهضة ضد حلفائه السابقين، أقنع الحريري معظم أعضاء كتلته بالموافقة على عون في محاولة للحفاظ على «تحالف 14 آذار» من الانهيار.
حسابات «حزب الله»
في حين دعم «حزب الله» ظاهرياً حليفه السياسي ميشال عون للوصول إلى سدّة الرئاسة، أشارت تصرفاته حيال ترشحه [بعض] التناقضات. وبالفعل، أحجمت الميليشيا في البداية دعمها، ولم تغيّر رأيها إلا بعد مرور أسابيع على تحوّل عون إلى مرشح قوي.
ولم يكن هذا التردد مفاجئاً لأن «حزب الله» استفاد إلى حدّ كبير من الفراغ السياسي الذي أضعف «تحالف 14 آذار» وأعطى الميليشيا حرية أكبر لتوسيع نشرها العسكري في سوريا. فضلاً عن ذلك، فالآن، وبعد أن فاز عون بمنصب الرئاسة – علماً بأنه معروف بعناده وميوله السياسية المستفردة بل وحتى نزعته نحو جنون العظمة – قد يصعب على «حزب الله» السيطرة عليه. وكان الحزب قد مرّ بتجربة سيئة مع الرئيس السابق سليمان الذي دعم ترشحه في عام 2008. وفي البداية، أثبت سليمان أنه رئيس موالٍ إلى حدّ كبير لـ «حزب الله» ولكنه انقلب ضد الميليشيا في العامين الأخيرتين من ولايته.
أما منافس «حزب الله» الشيعي الأصغر حجماً «حركة أمل»، فقد عارض انتخاب عون علناً. وأعرب زعيم الحركة رئيس مجلس النواب نبيه بري بوضوح عن نفوره منه – حيث قال لعون في الأسبوع الماضي “أنا ضدك وسأصوت ضدك” وأوعز إلى كتلته التي تضمّ 13 نائباً بعدم التصويت له في الانتخابات التي جرت في31 تشرين الأول/أكتوبر. وفي إطار يعكس ربما التباين في آراء الطائفة الشيعية، حصلت عدة صدامات عنيفة خلال الأسابيع القليلة الماضية بين «حركة أمل» و«حزب الله» عندما ازدادت حظوظ عون بالرئاسة.
التوقعات
لكي يصبح عون رئيساً للجمهورية – على الأقل نظرياً – ورمزاً وطنياً للبنان، تعيّن عليه الاستقالة من عضويته في «التيار الوطني الحر» ورئاسته له. ومنذ ذلك الحين مُنح هذا المنصب إلى صهره جبران باسيل، وهو شخصية أخرى مثيرة للجدل ولطالما تورّط اسمه في فضائح فساد وادعاءات بالتحريض الطائفي. وخلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية، عبّر باسيل عن انفتاحه نحو نوع من التوافق، مغرداً بشكل يصعب تصديقه بشأن تقديره المستحدث “للسنّة المعتدلين” في لبنان. ومع ذلك، تبقى الوقائع السياسية والخريطة الانتخابية في لبنان على ما هي عليه، كما أن انتخاب عون لا يعني بأي حال تفكك التحالف السياسي الذي يجمع «التيار الوطني الحر» و«حزب الله».
ومن جهة الحريري، فلم تكن مهمته بإقناع حلفائه السياسيين بقبول عون رئيساً سهلة، حيث أن ستة أعضاء من كتلته «تيار المستقبل» التي لها 33 مقعداً من أصل 128 في البرلمان اللبناني لم يدعموا هذا الاتفاق. ومع ذلك، فإن المفاوضات المرتقبة لتحديد تشكيلة الحكومة الجديدة ستشهد مزيداً من التعقيد. فقد قبل الحريري بعون باعتباره أهون الشرّيْن على أن ينال في المقابل منصب رئيس الوزراء، وهو هدف يحظى بتأييد ائتلافه.
وإذا ما افترضنا تحقّق هذا السيناريو، سيواجه الحريري تحديات أخرى بصفته رئيساً للوزراء. فسيكون من الصعب جداً، على سبيل المثال، تلبية جميع المطالب المتنافسة للوزارات التي سيتم اختيارها من قبل مختلف الجهات الفاعلة، بما فيها عون (الذي من المرجح أن يصر على تسمية حوالي ثلث أعضاء مجلس الوزراء البالغ عدده ثلاثين عضواً)، و «حزب الله»، و «التيار الوطني الحر»، وكتلة الحريري الخاصة التي تضمّ عشرة أحزاب. وحتى إذا أصبح رئيساً للوزراء، ليس هناك ما يضمن أن ولاية الحريري ستدوم طويلاً. ففي المرة الأخيرة التي تولّى بها هذا المنصب، أطاحت به «قوى 8 آذار» بعد مرور عامين فقط.
ولكن الديناميكيات الجديدة الناتجة عن رئاسة عون تكتسب أهمية أكبر من السياسة. فكما ذُكر سابقاً، كان شخصية مسببة للخلاف بشكل ملحوظ على مدى العقد الماضي. لكن بعد أن انتظر قرابة ثلاثة عقود ليصبح رئيساً، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سيصبح شخصية وطنية جامعة أو سيبقى قومياً حزبياً طائفياً متعاطفاً مع نفوذ إيران المتزايد في لبنان؟ إن التجارب السابقة لا توفّر أسباباً كثيرة للتفاؤل رغم اعتقاد البعض في معسكر «14 آذار» أن سنّ عون المتقدّم سيدفعه إلى تجنّب أي نزاعات مع خصومه السابقين وسيركّز بدلاً من ذلك على ضمان إرثه. ومن وجهة نظرهم، قد يعني ذلك المساعدة على حلّ بعض المشاكل الاقتصادية والبيئية الأكثر إلحاحاً في لبنان، لا سيما الأزمة الناجمة عن اللاجئين السوريين، الذين أصبحوا يشكّلون الآن ما يقرب من ثلث سكان البلاد.
التداعيات السياسية
حتى الآن، أشادت واشنطن علناً بانتخاب عون ودعت الحكومة الجديدة إلى “التمسك” بالتزاماتها، “بما فيها تلك التي ينصّ عليها قرارا مجلس الأمن رقم 1559 و1701” اللذان يشدّدان على سيادة لبنان وضرورة نزع سلاح «حزب الله». لكن من المرجّح ألا تلقى هذه التحذيرات آذاناً صاغية. ونظراً إلى واقع الحال، سيحتفظ «حزب الله» بترسانته الهائلة من الأسلحة خارج سلطة الحكومة في المستقبل المنظور. كما سيواصل نشر قواته في سوريا للقتال نيابة عن نظام الأسد، بموافقة حكومة بيروت أو بدونها. بعبارات أخرى، حتى إذا أصبح الحريري رئيساً للوزراء، فإن البيان الوزاري الصادر عن حكومته من المرجح أن يضفي الشرعية على أسلحة «حزب الله».
ولهذه الأسباب وغيرها، يَعتبر الكثيرون في الولايات المتحدة والمنطقة أن انتخاب عون هو انتصار لـ «حزب الله» وإيران. ولكن هناك بدائل قليلة أمام الحريري وائتلافه، ومن الصعب تصوّر أن تكون رئاسة عون أسوأ من الفراغ المستمر بالنسبة إلى «تحالف 14 آذار» والمصالح الأمريكية. وحتى قد يتخطى عون التوقّعات المتدنية للغاية لرئاسته. وكذلك، قد تعيد الحكومة برئاسة الحريري، إذا تمّت إدارتها بحنكة وبراعة، إحياء «تحالف 14 آذار» المتداعي فتجعله قوة سياسية أكثر فعاليةً وشعبيةً. وعلى أي حال، فإن خروج عون من «التيار الوطني الحر» قد يفاقم الانقسامات الداخلية في الحزب ويقلّص الدعم الشعبي الذي يحظى به – في تطوّر سيعود مع مرور الوقت بالفائدة على «تحالف 14 آذار». والأهم من ذلك، يبدو أن الاتفاق على انتخابه قد حظي بمباركة السعودية، مما قد يدفع بالرياض إلى الانخراط مجدداً في الحياة السياسية اللبنانية لتشكّل بذلك قوة موزانة مفيدة في وجه النفوذ الإيراني.
وأخيراً، في حين أن القرار المتخذ في 31 تشرين الأول/أكتوبر قد يضع حداً للأزمة السياسية التي دامت طويلاً في لبنان، لا تزال التحديات الوطنية الكبيرة قائمة. فصلاحيات الرئيس محدودة، لذلك فإن ملء هذا المنصب الشاغر ليس دواءً لكل العلل. وفي ظل وجود عون أو غيابه، لا يزال «حزب الله» وإيران الجهتيْن السياسيتيْن المهيمنتيْن في البلاد. وفي غياب سياسة أمريكية فعالة تكسر شوكة طهران ووكلائها في سوريا، سيبقى لبنان على شفا أزمة.
ديفيد شينكر هو زميل “أوفزين” ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.