تبرز قضية الزواج في مصر الآن كواحدة من كم هائل من الإشكاليات والاختلالات التي تهدد بنية المجتمع المصري بالتصدع، ومن البديهي أنها ضمن قائمة القضايا الأولى بالاهتمام، لتماسها المباشر مع كيان الأسرة، نواة المجتمع الإنساني، وحاضنة حاضره ومستقبله.
تستمد تشكيلة القوانين المصرية المنظمة للزواج والأحوال الشخصية في مصر من الشريعة الإسلامية للمسلمين، ومن شرائع الطوائف المسيحية لأتباع كل طائفة، وتشهد الساحة المصرية الآن اضطراباً وحراكاً، نتيجة للتغيرات الثقافية والحضارية، وما يرد على مصر من ثقافات، بعضها يحمل ملامح تاريخ مضى واندثرت معالمه، وبعضها وارد مع تيارات الحداثة والعولمة، ليصطرع كل هذا مع حقائق الواقع وملابساته العملية في بيئة محتقنة غير قادرة على استيعاب المتغيرات، وفي نفس الوقت غير قادرة على الثبات تشبثاً بما انتهت صلاحيته من أفكار ونظم وقوانين، ومن الطبيعي والحالة هذه أن ينال التشوش والخلط من استقرار الخلية الأولى للمجتمع، فينتشر الزواج العرفي السري بين الشباب، الذين يرون الكبار العارفين يتخبطون بين التحليل والتحريم، يحللونه دينياً، ويجرمونه اجتماعياً، ونسمع عن زواج المسيار والبوي فرند والمتعة، وفي الجانب المسيحي، أمام المحاكم الآلاف من قضايا طلب الطلاق، وآلاف أخرى من طالبي الزواج المطلقين بأحكام قضائية، ترفض الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الاعتراف بها، متحدية سيادة القانون وسيادة الدولة، كما ترفض الكنيسة إعادة تزويج هؤلاء، ليسلك بعض المحشورين بين الدولة والكنيسة طريق التلاعب بالأديان، بإشهار الإسلام هروباً من سطوة قوانين الزواج بالكنيسة، التي اختفت الرحمة بشعبها من قاموسها، متمسكة بعناد بحرفية تفسيرها الخاص لنصوص الإنجيل، محتمية بمساندة العوام لخطابها الذي يدعي التمسك بتعاليم السيد المسيح، فتتوالد المشاكل من بعضها، حين يعاود الذين أعلنوا إسلامهم الرجوع للمسيحية، فتقوم الدنيا ولا تقعد، باعتبارهم مرتدين عن الإسلام، وينبغي إقامة حد الردة عليهم قتلاً بحد بالسيف، وعلى نفس الخط كانت قضية الطفلين “ماريو وأندرو”، اللذين أسلم والدهما، ثم عاد عن إسلامه، ثم عاد وأسلم من جديد، وتستجيب الدولة ووزارة التربية لطلبه باعتبار طفليه مسلمين رغماً عن إرادتهما، ويختلط الحابل بالنابل، والظالم بالمظلوم، ويقع الطفلان ضحية دولة تتخبط وكنيسة ثابتة كالصخر، وبين أبوين تفاقم العداء والعناد بينهما، نتيجة لغياب منفذ لحل الرابطة بين زوجين استحالت العشرة بينهما، ليتحول خلافهما إلى صدام ثم عداء يخلف مرارات يتجرعها الأنجال!!
الأمر على هذا النهج الذي تسير عليه الدولة المصرية، وتجرجر إليه الشعب المتبلبل، لا يفضي إلى إيجاد أي حل لأي إشكالية، بل تتفاقم المشاكل وتتناسل من بعضها البعض، لتضاف أو لتكون عاملاً من عوامل الفشل في إدارة موارد الدولة الاقتصادية وعلى رأسها الموارد البشرية، فتشكو الدولة من زيادة النسل،وتشكو الجماهير من تقصير الدولة، والكل ظالم والكل مظلوم، متاهة أو مخاضة بلا شطآن، ما دمنا نصر على ذات نظرتنا للوجود وللحياة!!
ينبغي الكف عن النظر إلى الزواج وقضايا الأحوال الشخصية كقضايا دينية، فالرسالات السماوية تهدف لهداية الإنسان إلى خالقه، يعبده حق العبادة، ويؤمن باليوم الآخر، لكن الزواج هو علاقة بين أفراد في المجتمع، الذي تقوم دولة على تنظيم أموره وفق عقد اجتماعي يجسد الدستور الجزء الأعظم من معالمه، ويترتب على الزواج حقوق وواجبات لكل من طرفي العلاقة، ويثمر أفراداً جدداً بالمجتمع، يترتب أيضاً على وجودهم حقوق وواجبات لدى طرفي الزواج وتجاههم، ليكون لدينا مجموعة من علاقات القرابة والشراكة الحياتية، تحتاج إلى قوانين لضبطها وتنظيمها، وتحتاج تلك القوانين للتغير مع تطور الحياة، كغيرها من القوانين التي تحكم حركة المجتمع، وإذا ثبتنا القوانين وأبَّدناها، فلن تتوقف حركة المجتمع، لكنها لن تكون حركة صحية، وإنما تعثراً وتخبطاً.
فمثلاً القانون الذي يعطي للزوجة المطلقة الحاضنة الحق في مسكن الزوجية، حتمته ظروف أزمة الإسكان في مصر، وقبلها لم يكن له معنى ولا مبرر، وفي ظل عمل المرأة حالياً، وتمكنها من كسب عيشها، لم يعد الطلاق بمثابة حكم إعدام أو تشريد للمرأة، مما ترتب عليه رغبة بعض الزوجات في الطلاق، في حالة استحالة العشرة بين الطرفين، وذلك بأعداد تفوق كثيراً مثيلتها في الماضي، دون أن يعني هذا أن ثمة منحى لتفكك الأسرة، فالحادث الآن هو مجرد الكشف عن تحلل وصراع مستتر وسلبي من جميع الجوانب، ومحاولة إصلاح الوضع وتأسيس كيانات أسرية جديدة وصحية، كما أن وجود قانون أو قرار يشترط موافقة الزوج على سفر زوجته إلى خارج البلاد، ربما كان مما يمكن تحمل وطأته فيما مضى، لندرة سفر الأفراد ومحدودية حركتهم، علاوة على ندرة دواعي سفر المرأة منفردة، أما في عصرنا الحالي، حيث تعمل المرأة في السلك الدبلوماسي وفي الجامعات ذات العلاقات العالمية، وفي الشركات متعددة الجنسية أو متشابكة العلاقات مع العالم، فلا يحتمل الأمر التوقف عند موافقة الزوج، لما يمكن أن يترتب عليه من أضرار، ليس للزوجة وحدها، وإنما أيضاً للجهة التي تعمل لديها.
الأمثلة كثيرة لا يسمح المجال بالاستفاضة فيها، وتدلنا على أن تنظيم الزواج والعلاقات المترتبة عليه والناتجة عنه مسألة مدنية بحتة، بما يعني أنها من صميم واجبات وسلطة الدولة ومجلسها التشريعي، وفق منظور علماني، يستند إلى دراسات علماء القانون والاجتماع والتربية وعلم النفس، وأحدث ما توصل إليه العلم في هذه المجالات، فهكذا يتجذر العلم في حياتنا، وبهذا فقط نغادر هاوية الفشل المستديم، إلى آفاق الحضارة والتقدم.
يحتاج المجتمع المصري ليكون مؤهلاً لشق طريقه إلى حضارة الألفية الثالثة، أن يتأسس على نواة أولى سليمة، ولن يتحقق هذا إلا بسن قانون موحد للأحوال الشخصية لجميع المصريين، يتفادى كل مواطن الخلل التي تظهرها الممارسة العملية في تشكيلة التشريعات المطبقة حالياً، كما يتجنب تصنيف التشريعات وفقاً لتعدد الأديان والطوائف، كذا أي اشتراطات لعقيدة طرفي الزواج، وأن ينظر للعلاقة بين الزوج والزوجة كعلاقة شراكة متساوية متكافئة، تنأى عن شبهة امتلاك أحد طرفي العلاقة للآخر، وأن يكون عقد الرابطة أو حلها مرتهناً بإرادة الطرفين معاً على قدم المساواة، وبطبيعة العلاقة بينهما، دون ولاية من أي نوع لأي طرف خارجي، وأن تكفل بنود عقد الزواج استقراراً نسبياً للرابطة الزوجية، وتتضمن في نفس الوقت إمكانية فسخ العقد، بناء على رغبة الطرفين أو أحدهما، وفق ضوابط تمنع التعسف، مع حفظ حقوق الطرفين المادية والأدبية في جميع الحالات كشريكين في الثروة بجميع صورها، سائلة ومنقولة وثابتة، كحقوق غير قابلة للنزع أو التنازل عنها.
لا يعني ما تقدم أننا ندعو لتنحية الدين عن حياة الإنسان بل بالعكس، تتضمن هذه الرؤية النظر إلى الدين كما يليق به، كنموذج إلهي مثالي، يسعى الفرد المؤمن طوال عمره إلى محاولة الوصول بممارساته إلى مستوى كماله الرفيع، الذي أشارت إليه رسالات السماء، وإذا كانت تعاليم السماء هي المثل الأعلى، الذي يسعى إليه الأفراد والجماعات، فإن القوانين الأرضية لا توضع في أي مجال على أساس المثل العليا، بل توضع على أساس الحد الأدنى، الذي يعتبر تجاوزه إجراماً في حق المجتمع وأفراده، لكن هذه الحدود الدنيا التي يلتزمها القانون لا تمنع الفرد من التسامي عليها، وفقاً لإيمانه وقناعاته الشخصية، سواء الدينية أو الأخلاقية، فالالتزام بالقوانين أشبه بنسبة الـ 50% المحددة لنجاح الطالب في الامتحان، وهي بالطبع لا تمنع الحصول على درجات أعلى، دون أن يرتكب الطالب بالطبع من المخالفات ما يُفقده الـ 50% الأساسية.
فعندما تحض رسالات السماء المؤمنين على أن يغضوا من أبصارهم، أو تنص على أن من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، فإن عدم إصدارنا لقانون يجرم النظر إلى النساء لا يعني أننا نشجع أو نؤيد عدم الالتزام بهذه الوصايا السماوية، فالسبيل مفتوح أمام المؤمنين للارتقاء بممارساتهم وأخلاقهم، علهم يصلون إلى مستوى تعاليم السماء، كما أن هناك أيضاً مساحة لقناعات الفرد الدينية أو الشخصية لتجنب ما لا يقتنع به، مما تتيحه القوانين الوضعية، ويراه متعارضاً مع قناعاته، لكن العكس سيكون بالطبع غير جائز، وهو كسر القوانين بأي مبررات كانت.
نقدم تلك السطور للمتخصصين من أهل القانون وأهل العلوم للتصحيح والتطوير، إذ ليست أكثر من أشواق للمعاصرة، ولاستزراع العلم في تربة غابت عنها شمسه طويلاً، هي توق إلى صباح ربما يحتاج إلى المزيد من الوقت تصارع فيه أنواره الوليدة ظلمات عاتية وحالكة، وربما تدخل تلك السطور الآن في عداد الأحلام، لكن لا بأس من أن نحلم للغد، مادامت إنجازات اليوم ليست إلا أحلام الأمس!!
kghobrial@yahoo.com
* كاتب مصري – الإسكندرية