بمناسبة صدور الطبعة الثانية من كتاب الدكتور عبد الرزاق عيد ذهنية الحريم أم ثقافة الفتنة (حوارات في التعدد والتغاير والاختلاف) في مصر عن دار رؤية – القاهرة – 552 صفحة من القطع المتوسط، هذه المقدمة التي كتبها المؤلف لهذا السفر الثقافي الحواري الكرنفالي الحاشد.
تكمن الأهمية الراهنية لهذا الكتاب، في بنيته الحوارية، بعد ردح من الزمن افتقدت فيه الثقافة العربية روح الحوار المتبادل، ليحل محله روح الإقصاء المتبادل، وذلك منذ القرار الجماعي للنخبة الثقافية العربية، بالتنازل الطوعي عن قيم التعدد المؤسسة على الشرعية الدستورية للمجتمع المدني، باتجاه واحدية الرأي المؤسسة على الشرعية الثورية القائلة بوحدة الهدف على طريق بناء الوحدة القومية والعدالة الاشتراكية!
لقد كان ذلك بدءاً من الثورات الوطنية والقومية التحررية التي ضحت بالديمقراطية السياسية لأنها وجدتها عقبة أمام الديمقراطية الاجتماعية، وذلك بدءاً من الستينات، حيث بداية تقويض المجتمع المدني ووأد الديمقراطية بين مطرقة التيار القومي (عربي أو سوري) من جهة، وسندان الماركسية الشيوعية الرسمية من جهة أخرى، الأول من خلال المراهنة على أولوية مبدأ الاندماج (القومي) على حساب مبدأ السيادة على النفس والديمقراطية، والثاني من خلال المراهنة على مبدأ أولوية (دكتاتورية البروليتاريا) الاشتراكية، على حساب مبدأ استحالة بناء الاشتراكية على قاعدة قروسطية، أي بغياب أسس “المجتمع المدني” الديمقراطي، التعددي، القانوني، الدستوري، الحديث.
وكانت البداية العيانية لهذا الوأد بعد 14 تموز 1958 في العراق، من خلال تعمق الصراع بين فرعي حركة “التقدم” العربي، متمثلين بالقومي العربي التقليدي والماركسي العربي (المسفيَت)، وبخاصة الصراع بين الناصرية والشيوعية العراقية، حيث الإقصاء المتبادل يبلغ حد السحل والسحل المضاد المتبادل، الأمر الذي من شأنه أن يقود إلى أن يحل السجن بوصفه المكان الوحيد المتبقي للمختلف والمغاير والمحاور في المشرق العربي!
حوارات هذا الكتاب، تحتضن الصوت المغاير والمختلف، الصوت النقدي الذي يتمرد على حتمية مصادرات التيارين (القومي، الماركسي)، حيث بموازاة هاتين المصفوفتين وبالتجاور النقدي معهما، كان يزدهر خطاباً يسارياً عصيانياً، يرفض تلك الثنائيات التي خلفها التياران التقليديان (القومي والماركسي)، ليطرزا الخطاب العربي بثنائياتهما العقيمة حتى اليوم، حيث ثنائية التعارض بين القومية والاشتراكية، ثنائية التعارض بين القومية والديمقراطية، في حين أن الثورة القومية هي ثورة ديمقراطية حكماً، بالتعريف، ومن ثم التعارض بين الاشتراكية والديمقراطية باسم ثنائية دولتانية (ستالينية) تضع الديمقراطية الاجتماعية بالتعارض مع الديمقراطية السياسية، مما يتعارض جوهرياً مع النظرية الاشتراكية المؤسسة على الجدل بوصفه قانون الطبيعة والتاريخ، ليتولد عن ذلك تخطر بين ثنائيات لا تنفذ: قومية / أممية، دين / علمانية، أصالة / معاصرة، ماركسية / ليبرالية، أنا / الآخر، الشمال / الجنوب، تراث / حداثة… الخ.
ومظهر هذه العصيانية المتمردة على جبرية تلك الثنائيات، والمغامرة باتجاه أفق المغاير والمختلف تتمثل في:
– أن متن الكتاب يشتمل في المستوى النصي، على حضور فعلي أو طيفي دلالي لأربعة هم رواد الهرطقة اليسارية (قومياً، ماركسياً) في الستينات ليس على المستوى السوري فحسب، بل وعلى المستوى العربي، وهم ياسين الحافظ، الياس مرقص، صادق جلال العظم، جورج طرابيشي.
حيث ساهم الأربعة في التأسيس لفكر يساري نقدي جديد، من خلال استدعاء التنوير الليبرالي كضرورة تاريخية لا غنى عنها لأية ممارسة فكرية يسارية، ومن خلال هذه الأطروحة التي كانت تتناوس في درجة حضورها الظاهري والباطني، في نصوص كل واحد على حدة، كان يولد وعي يساري طامح لإنتاج ترسيمة نظرية يتحقق فيها الكوني في الوطني، والوطني في الكوني من خلال عقل جدلي طليق ومبتكر، لإنتاج وعي مطابق بالواقع فيما هو عليه وما يمكن أن يكون عليه بالنسبة للحافظ أو التقاط القوانين المتحكمة في منطق الواقع العياني، بالنسبة الياس مرقص، أو خوض معركة العقلانية ضد البنية الذهنية السحرية الميثية للعالم أي (اللوغوس في مواجهة الميتوث) بالنسبة لصادق جلال العظم، أي تبييء الرؤية الماركسية النقدية في جوانية الذات الثقافية العربية، من خلال الانكباب على الخاص العياني، والتي ستتمثل عند جورج طرابيشي بهذا النشاط المحموم لترجمة الفكر الماركسي النقدي المشبع بميراث التنوير الأوروبي، في مواجهة ماركسية ذات ميراث أوتوقراطي روسي، أو استبدادي شرقي عربي، هذا من جهة ومن جهة أخرى الشغل على الإنتاج الثقافي العربي (الأدب ثم التراث) لكن عبر تحولات دراماتيكية ـ بعض الشيء ـ في خطه المنهجي، من الماركسية إلى الفرويدية، ومن ثم إلى ليبرالية خالصة، لكن من موقع المثقف الوطني النهضوي.
– موضوع العلاقة بين (الميث واللوغوس) العقل السحري والعقل المنطقي، ستكون موضوع القسم الأول والثاني، الأول مع حيدر حيدر لكن من خلال تجليات هذه الموضوعة في الممارسة الإبداعية للأدب، وبالتحديد من خلال مناقشة البنية التكوينية الدلالية لرواية “وليمة لأعشاب البحر” والتداعيات التي تتابعت غبَّ نشرها من جديد في القاهرة، حيث خلصنا إلى أن الفكر اليساري، من خلال لبوسه العلماني، حوَّل العلمانية إلى معتقدية وثوقية فقهية تنتج وعياً مقلوباً للعقل الفقهي المشيخي، ومع الأسف فإن حيدر حيدر دفع بالحوار من مستواه النظري، إلى المستوى السجالي الاتهامي العامي، ولعل سبب ذلك أن حيدر يلج ساحة الحوار وهو مدجج بانفعالاته ومشاعره كالكثيرين من منتجي الأدب ـ مع الأسف ـ الذين يستبدلون المعرفة بالشعارات المؤسسة على فكر يومي يغص بالأهواء والرغبات.
هذا الأمر سيتبين للقارئ من خلال الحوار النظري الرفيع، الذي دار حول الموضوع ذاته، لكن من خلال رواية “آيات شيطانية” مع المفكر صادق جلال العظم، حيث كان هذا الحوار إغناءً للناقد والمنقود، كما كان قميناً أن يفرد بكتاب مستقل، وهو سيكون موضوع القسم الثاني من هذا الكتاب.
– في القسم الثالث: حاولنا أن يضم هذا القسم لفيف (هراطقة اليسار الأربعة المشار إليهم)، وإذا كانت مقتضيات الحوار لم تستدع سوى حضور (ياسين الحافظ ـ جورج طرابيشي ـ صادق جلال العظم)، فإننا أثرنا أن نضيف ملحقاً يخص الياس مرقص، لتكتمل لوحة مربع اليسار النقدي (الهرطوقي) سورياً وعربياً.
– القسم الرابع: تكمن أهمية هذا القسم ليس في موضوعه ذاته فحسب، وهو موضوع هام ومستمر، بل بتنوع المشاركين الذين قاربوا هذا الموضوع، حيث يشكلون بمجموعهم أعلاماً في حقول إنتاجهم الثقافي والفكري والأدبي والاجتماعي، سيما وأنه يشتمل على مقاربات رهيفة للراحل سعد الله ونوس، وهي لم تنشر في أعماله الكاملة.
– القسم الخامس: يسجل هذا القسم اهتزازات صورة الانهيار للنموذج الاشتراكي على شاشة عقل وروح مجموعة من المفكرين اليساريين، وهم يراقبون للتو آثاره المدمرة على المستوى الكوني والقومي والوطني، وهو لا يزال حتى اليوم يمارس تداعياته على مجموع هذه المستويات، ويبدو أن هذا الحدث وما ترتب عليه ويترتب اليوم وغداً، سيجعل من الحوار حوله مفتوحاً ومستمراً، ما دام العالم على هذه الدرجة من الوحشة الإنسانية، وهذه الدرجة من انتشار ثقافة الكراهية بين الحضارات.
هل سيساهم هذا الكتاب الحواري، بهذا الحشد الكرنفالي من كبار المتحاورين، أن يسد بعض “جوعنا للحوار”؟ وأن يفتح كوة في جدار مجتمع الصوت الواحد، كوة تتيح استشراف ممكنات مجتمع مدني متعدد الأصوات ؟
في هذه الطبعة الثانية لا بد للمؤلف من الاعتراف بأنه إذا كان قد سجل في هذا الكتاب انعتاقه من الأصولية اليسارية “المعتقدوية” التي تتقاطع مع الأصوليات القومية والاسلامية بـ (تديين الدنيوي) في مسألة الموقف من الآخر : فيما دعي باسم أولوية التحرر الوطني (الخارج)، على حساب الحريات السياسية الدستورية والديموقراطية ( الداخل) ، فإنه يعترف بأن ثمة بقايا آثار سرطان الهوية الماهوية كانت تتحكم بالمنظور السياسي للكاتب الذي كان لايزال يحمل أوهام الهوية من موقع التغاير والاختلاف مع الآخر الخارجي (الامبريالي) ، ما بعد الحدود ، حدود الجغرافيا ، وليس حدود العقل والروح ، حتى أتت هزيمة آخر المراهنات على الهويات العتيقة ، الهوية القوموية البلاغية اللفظية الشعبوية الزائفة والمزيفة في 9 نيسان 2003 مع سقوط نظام الطغيان في بغداد ، لتتم عملية الحسم مع الذات : إما الإنقراض بقيادة ابن لادن ، أو الاتجاه إلى تلمس الوطن والوطنية بدلالة القيم الكونية : حقوق الإنسان ، الديموقراطية ، الشرعية الدستورية ، حيث كل مفهوم للوطن خارج هذه المعايير- أو بدونها- لن يشير إلا إلى بقعة جغرافية سديمية برزخية يستوطنها الاستبداد والفساد والصمت والخوف والمرض الروحي والتلف الأخلاقي والدمار المدني.
وذلك بهدف حسم الاجابة على السؤال الشكسبيري : هل المشكلة فينا أم في العصر؟ لنقول: إن المشكلة فينا لأننا منذ القرن الرابع الهجري قررنا أن نهجر العصر، أن نهجر التاريخ باتجاه عالم البرزخ، وما زلنا إلى اليوم نعوم في عدميته المكانية والزمانية ،بينما الآخر يصنع التاريخ بغنى عن دورنا ومساهمتنا بل ووجودنا…