ليس واضحاً بماذا يهدّدنا ممثّل الجالية الإيرانية في البرلمان اللبناني حينما يتحدث عن “نَبش آخر” يقابل ما يسميه هو “نبش” تاريخ لبنان الكبير! مضحك أن يزعم هذا النائب الإيراني “المجنّس لبنانياً” أنه يملك “ملفّاً” إسمه “ملف غورو”! فهل يطلع اللبنانيين (أو الإيرانيين) على محتويات هذا الملف الإستخباري الخطير؟ هل كان الجنرال غورو عميلاً.. للموساد؟
ثم ما هي “الأمور الأخرى” التي يهددنا بها هذا النائب “المأيرن” (نسبةً لإيران الشاه!)؟ نتمنى على النائب فضل الله (إبن خالة فلان!) أن يجيبنا بالفارسي، أو أقلّه بالعربي “بلكنة إيرانية”!
في ما يلي ردّ “لقاء سيدة الجبل” بلسان النائب السابق الدكتور فارس سعيد:
لقاء سيدة الجبل
مندوبو الصحافة الكريمة،
السادة الحضور.
باسم “لقاء سيدة الجبل” الذي أتشرّف برئاسته، دعوتكم إلى هذا اللقاء الصحافي للتوقفِ أمام كلامٍ خطير لنائبٍ في البرلمان اللبناني شكّك علناً وجهاراً، إلى حدّ الإنكار، بمفهوم “لبنان الكبير، وطناً نهائياً لجميع أبنائه”.. هو النائب الكريم السيد حسن فضل الله، عضو “كتلة الوفاء للمقاومة” في البرلمان. والذي قال: “نحن نعود إلى نبش التاريخ لتحديد ما هو وطني وغير وطني، لدينا عيد الاستقلال ونحتفل به، أما فتح التاريخ فسيفتح الباب أمام نبشٍ آخر، وتحقيق هذا العيد سيطرح أمر تحديد حدود لبنان، والحدود اليوم ليست حدود عام 1920 وليست حدود لبنان الكبير. وهل سنعيد فتح ملف غورو، لذلك ندعو الى عدم الأخذ بهذا الاقتراح، حتى لا تطرح أمور اخرى”.
وضرورةُ التوقفِ أمام هذا الكلام إنما تُمليها قناعتي المطلقة، إلى حدّ الإيمان، بأن هذا اللبنانَ الكبير، والنهائيَ لجميع أبنائه، والذي نعيشُ في كنفه منذ مائة عام، ليس أقلَّ من رمزٍ لهويتِنا الوطنية الجامعة، وشَر۫طِ حياة، وضمانةِ مستقبل، وحِف۫ظِ مصالحَ ودَر۫ءِ مفاسد، لجميع أبنائه بلا استثناء، بمن فيهم مَن۫ قد يشكّكون بمشروعيةِ هذا اللبنان “لغايةٍ في نفس يعقوب”.
وسوف أتوقّفُ، منكِراً على النائب الكريم كلامَه إلى حدّ المطالبة بتعريضه للمساءلة الرسمية، أتوقَّف من موقعي كمواطن لبناني وكمسيحيّ لبناني (يُفترض أن هذا النائب يمثّلني بحسب الدستور، أي بصفته نائباً عن الشعب اللبناني)، كما أتوقَّف انطلاقاً من قناعاتي التامة بالشراكة المنصفة والمتكافئة مع جميعِ إخوتي اللبنانيين من كلِّ الطوائف، بمن فيهم الشيعة بطبيعة الحال.. فلبنان يكون بكلّ مكوّناتِه أو لا يكون!
بَي۫دَ أن هذا التشكيك الذي نستنكرُه بشدّة لا يفاجئنا أبداً، لأننا سمعناه من داخل كل الجماعات اللبنانية، وفي مراحلَ مختلفة على مدى مائة عام.. حتى ليُمكنُ القول أن تاريخَ لبنان الكبير هذا كانت تتجاذبُه على الدوام نزعتان: نزعةُ التشكيك بمشروعية الكيان وضرورته ومعناه وجدواه من جهة، ونزعةُ الإيمان بذلك كلِه من جهة ثانية… ولا حاجةَ بنا إلى استعراضِ التفاصيل المعلومة للجميع، ولا إلى القول بأن نزعةَ الإيمان كانت هي المنتصرة في كل المراحل، وإن۫ بأثمانٍ باهظة وتضحيات كثيرة لعلّها من طبيعة التاريخ. ولنقُل۫ أيضاً أن تلك الأثمان الباهظة، بما فيها حروبٌ كاملةُ الأوصاف، هي التي أوصلَتنا إلى استنتاجِ العبر واستخلاصِ الدروس التي كتبناها في ميثاقِ الطائفِ ودستوره، معطوفين بقوة وأمانة على فكرةِ التأسيس 1920 وميثاقِ الاستقلال 1943 وأمانةِ العيش المشترك.
لا أريدُ أن أحيلَ النائبَ الكريم على أدبيات الطوائف الأخرى والاعتبارات التي حملتها على التمسّك بلبنان الكبير والوفاءِ له، ولن أحيلَه خصوصاً على منطق كنيستي، الكنيسة المارونية، التي توافَقَ اللبنانيون على أن الفضلَ الأول في تأسيس الكيان عام 1920 إنما يعود إليها، وعلى أنها “كنيسةٌ خبيرةٌ بالعيش المشترك، مثلما الكنيسة الرسولية الجامعة خبيرة بالسلام العالمي” على ما جاء حقاً وصدقاً في نصوص المجمع البطريركي الماروني 2006.. حسبي، من موقعي كماروني لبناني، أن أقول – وفقاً لأدبيات كنيستي في نصوص المجمع البطريركي الماروني – بأن اختيارنا التاريخيّ هذا كان يعني بداهةً وحُكماً رفضنا أن نكون “أهلَ ذمّة” لأي فئة طائفية في الداخل اللبناني، أو “جالية” لأي دولة أجنبية في الخارج، فضلاً عن أن يكون لبنان كياناً خاصاً بنا.. كان هذا خيارَنا في الماضي، وهو الآن أقوى مما كان… قلتُ لن أحيلَ النائب الكريم على أدبيات طائفتي والطوائف الأخرى التي آمنت بلبنان الكبير وطناً نهائياً، بحدوده المعترف بها دولياً وبمساحة 10452 كلم².. بل سأحيله على كلامِ شيعيّ في الصميم وتمثيليّ بامتياز، عبّرَ ويعبّرُ حتى هذه اللحظة – في رأيي وتقديري – عن وجدانِ الأكثريةِ الساحقة في الطائفة الشيعية الكريمة وعن إجماعٍ هو الأوسع في تاريخها اللبناني.
يقولُ الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله) في وصاياه، بعد أن عرض لتجربة الشيعة اللبنانيين منذ العهد العثماني ثم تأسيس الكيان عام 1920، ثم إنجاز الاستقلال عام 1943 وصولاً إلى اتفاق الطائف وصيغته ودستوره: “هذه التجربة تُعتبر نموذجاً للنجاح الوحيد الذي تحقّقَ في العصرِ الحديث لتصحيحِ وضع الشيعة في مجتمعٍ متنوّع”.
ثم يقول في ختامِ هذا العرض كلاماً جوهرياً يتّصل بموضوعنا اليوم (موقف النائب فضل الله)، … وهو كلامٌ ننصحُ النائب الكريم بالاطلاع عليه في مصدرِه (الوصايا)، وبإعادةِ النظر في موقفه بناءً على هذا الكلام الشيعي بامتياز، واللبناني بامتياز، والعربي بامتياز، والإسلامي بامتياز، والإنساني التقدّمي في محصّلة مقاصِدِه… يقول:
“وهذا المبدأ، أي لبنان الوطن النهائي لجميعِ بنيه، إنما يعودُ الفضلُ في اقتراحِه بهذه الصيغة الواضحة والحاسمة إلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في وثيقته الصادرة عام 1977 (بعناية الإمام السيد موسى الصدر). وقد أرسينا فيها هذا المبدأ الأساس والأهم في تاريخ لبنان السياسي – على ما أعتقد – لقطع دابر أيةِ مخاوفَ مسيحية من قضايا الذوبان والاندماج… والحقيقة أن هذا المبدأ وُضِعَ ليس فقط استجابةً وترضيةً للمسيحيين، بل كان ضرورةً في ما نعي – ولا أزال أعتقد بذلك إلى الآن (قبيل وفاته بأسابيع قليلة عام 2000) – ضرورةً للاجتماعِ اللبناني ولبقاءِ كيان لبنان، ليس لمصلحة لبنان وشعبه فقط، وإنما لمصلحةِ العالم العربي في كثيرٍ من الأبعاد، وحتى لمصلحة جوانبَ كثيرة من العالم الإسلامي، ونحن نمرُّ في حقبةٍ تاريخية مفصلية تتعلّقُ بقضايا التنوُّع والتعددية السياسية وما إلى ذلك. هذا بالإضافة للنظر إلى ضرورةِ وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان”…
أشدّدُ على كلمات الإمام شمس الدين الأخيرة: “… نحن نمرُّ في حقبةٍ تاريخية مفصلية تتعلّق بقضايا التنوع والتعددية السياسية وما إلى ذلك.. هذا بالإضافة للنظر إلى ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان”. تلك الحقبة التاريخية التي أشار إليها الإمام شمس الدين عام 2000، حملته على التمسُّك بلبنان الكبير والوطن النهائي.
نحن اليوم في الحقبةِ التاريخية المفصلية ذاتَها، إنما في أشدّ تعقيداتِها ومخاطرها.. والمفارقة أنّ الشيءَ نفسَه يحمِل النائب المحترم على التشكيك في ما تمسّك به إماما طائفته: الصدر وشمس الدين!!!
نحن نعلم أن التشكيك يأتي عادةً في لحظةٍ يكون فيها المشكّكُ قلقاً على وضعيَته في الكيان… أما صاحبنا، النائب، فيُخبرنا أن شعورَه بالزهو جرّاء “انتصاراته الإلهية” هو الذي يحمله على ما قال… فارحمنا يا رب… ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ايها الأصدقاء،
لا حول ولا قوة، لأن قوّتين إقليميتين أسقطتا الحدود في المرحلة الحاضرة:
- “الولاية” التي فتحت طريق طهران – بيروت وأسقطت الحدود من ايران إلى لبنان؛
- “الخلافة” التي أسقطت الحدود بين سوريا والعراق.
لا حول ولا قوة، لأنه في لحظة إعادة “تشكيل المنطقة” وفي لحظة تفتُّح الشهيات العرقية والإتنية والمذهبية والطائفية يطلّ علينا نائبٌ من “حزب الله” ليتنكّر لحدود لبنان التي انتزعناها في العام 1920!
لاحول ولا قوة.. لكن سنتمسّك بلبنان الكبير- لبنان بطريرك الحويّك ولبنان العيش المشترك! لبنان الذي استخلص الدروس وليس لبنان المقامر!
مؤتمر صحفي للدكتور فارس سعيد
بيروت، 2 تشرين الأول 2017
فندق الغبريال – الأشرفية