رغم كل ما اعترى لبنان المعاصر من شوائب، ورغم حروب متعددة هزته ولم تدمر دولته، ورغم أزمة بنيوية في نظامه وأزمات الحكم التي تنتج عنها، تمكن “لبنان الكبير” الذي نشأ عام 1920 من الصمود نظرا لموقعه المميز ووظيفته الجيوسياسية في قلب العالم العربي كجسر حضاري وملتقى مصالح الغرب والشرق. بفضل التسوية المتجددة بين أبنائه تمكن البلد الصغير من الصمود أمام أنواء حروبه الداخلية وحروب الآخرين.
حيال الانفجار السوري تصوّر لبنان الرسمي لفترة بأن سياسة النأي بالنفس ممكنة، لكن واقع تدخل “حزب الله” عسكريا وتموضع فريق كبير إلى جانب الثورة السورية كشف ارتباط الانقسام اللبناني بما يجري في سوريا، وأتت أحداث العراق- في الأيام الأخيرة- لتزيد من مخاوف إقحام لبنان في جحيم الحرب المذهبية البغيضة.
وما يبرر هذه المخاوف وجود شغور في موقع الرئاسة في حقبة التفتت في الجوار، وهذا الخلل المؤسساتي يحرم لبنان من أحد عوامل حصانته، إذ يتوجب التذكير بأن لبنان يكاد يكون البلد العربي الوحيد الذي يغادر الرئيس موقعه فيه دون انقلاب أو اغتيال.
المشكلة اليوم ليست دستورية فحسب، لأن حال السياسيين اللبنانيين الذين لم يتمكنوا حتى الآن من انتخاب بديل للرئيس ميشال سليمان يشبه الجدل البيزنطي حول جنس الملائكة بينما الحريق الإقليمي يهدد البيت اللبناني. هذا الترف السياسي وهذه الذاكرة القصيرة يمكن أن يدفع لبنان ثمنهما غاليا وبعد ذلك لا ينفع الندم. ربما من المفيد التذكير بأن لبنان هو حصن الحريات في محيطه، ومختبر التعايش والتعددية، وهو النموذج المعاكس للاستبداد والإقصاء ولذلك دفع الثمن غاليا في حقب عديدة من وجوده.
يقول المؤرخ الراحل الأب يواكيم مبارك: “إن حركة الاستقلال الذاتي اللبنانية التي قام بها الأمير فخر الدين الثاني (1572-1635م) والتي يبدو أنها امتدت من حلب إلى القدس قد سبقت بحوالي قرنين الحركات الاستقلالية السعودية والمصرية، وتميزت عن الاثنتين بعدم تضمّنها باعثا دينيا، وباحتوائها على تركيبة تعددية في مدها الوطني”.
وهذا الدرس من التاريخ يعني أن لبنان الفدرالية الطائفية يمكن أن يكون أنموذج المواطنة والتعددية، وما ينطبق على لبنان ينطبق على سوريا والعراق وبلدان المشرق الأخرى الغنية بمكوناتها الدينية واللغوية في أرض أنهكتها حروب الآلهة والأساطير، بعدما كانت أرض الحرف والانطلاق الحضاري.
بيد أن لبنان المستقل منذ 1943 لم يكن قادرا على تخطي الأزمات، وسرعان ما كانت العواصف الإقليمية عناصر إنذار لأزمات وحروب منذ 1958 إلى 1967 و1975 و1990 دون إغفال ما بعد 2005، ومنذ 2011 حتى اليوم.
يبرر البعض الأزمة البنيوية أو قصور الطبقة السياسية بأن لبنان “بلد الغرائب” لم يكن محكوما بكل ما للكلمة من معنى ولم يسده الحكم الرشيد إلا في فترات مثل “عهد الأمراء المعنيّين” التأسيسي، أو خلال حكم الرئيس فؤاد شهاب (1958- 1964) الذي كان مرادفا للاستقرار بفضل تسوية قضت بتحييد لبنان بين الشرق العربي ممثلا في الرئيس جمال عبدالناصر أي الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تشمل سوريا، والغرب ممثلا في شارل ديغول في تلك الحقبة.
ومع أن نشأة دولة لبنان تمت بقرار خارجي عام 1920 ضمن إطار ترتيبات منظومة سايكس- بيكو، إلا أن استمرارية لبنان لم تكن ممكنة لولا تفاهمات بين مكوناته وخاصة صيغة الميثاق الوطني إثر الاستقلال في 1943 أو اتفاق الطائف في 1989. واليوم بينما تسقط اتفاقية سايكس- بيكو عمليا انطلاقا من الموصل، من حيث بدأ الصراع على الطاقة في الشرق الأوسط، يعاني لبنان من شغور موقع الرئاسة الأولى، بينما توضع خرائط ما بعد الحرب الإعلامية الأولى على المشرحة، وبينما يحتدم صراع الأصوليات والمصالح الإقليمية التي تهدد الحدود والكيانات.
يزداد انكشاف لبنان أمام احتدام المخاطر، ويكتفي البعض بتوجيه الاتهامات للخارج أو لعدم نضوج الصفقة الإقليمية في تعطيل انتخاب الرئيس. وهذا يشكل تنصلا من المسؤولية اللبنانية الذاتية، وخاصة من جانب الزعامات المسيحية المارونية التي يفترض التعويل عليها في حماية لبنان ومنع سقوطه من جديد في أتون الحروب المدمرة.
زيادة على الاصطفاف الإقليمي الذي لا يسهل المهمة، يتم الإصرار على مقولة الرئيس القوي في دولة يخطف فيها “حزب الله” قرار الحرب والسلم، وتخضع إلى منطق المحاصصة بين الطوائف. والأهم هو استعادة صلاحيات الرئيس التي اختزلها اتفاق الطائف.
حيال المخاطر الزاحفة، لا بديل عن إيجاد تسوية الحد الأدنى وملء الفراغ الرئاسي. في حقبة من التشظي الإقليمي يصعب الحفاظ على ديمومة لبنان دون اعتماد نهج الولاء الوطني أولا، لأن لبنان يبقى حاجة لا غنى عنها لأبنائه مهما كانت ارتباطاتهم الخارجية، وهو أيضا حاجة لمحيطه كعنصر توازن وانفتاح. إن كل تركيبة للشرق الجديد العتيد يمكن أن تكون على صورة لبنان التعددية، وإلا سيكون شرق الظلم والظلام.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس