تمت مصادرة كتاب “حبر الشرق / بين الحروب وصراع السلطة” لمؤلفه المفكر الفرنسي دومينيك شقالييه وترجمة الدكتور جمال الشلبي, والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار ورد الأردنية للنشر والتوزيع.
وكانت “العرب اليوم” قد نشرت في صفحاتها الثقافية دراسة مطولة حول هذا الكتاب ومدى أهميته الفكرية والتاريخية ومدى إثارته كسيرة لمؤرخ عاش أحداث المنطقة وصراعاتها. “الشفّاف” يعيد نشر هذه الدراسة للفائدة، وسنسعى لإعادة نشر الصحفات الثلاث (فقط) التي طلب الرقيب الأردني “تصحيحها” (!) خلال الأسبوع المقبل.
*
“حبر الشرق – بين الحروب وصراع السلطة” لـ دومينيك شفالييه
كتاب مثير للجدل يحكي سيرة مؤرخ عاش احداث المنطقة وصراعاتها
العرب اليوم- هدا السرحان
“حبر الشرق – بين الحروب وصراع السلطة” كتاب مثير للجدل يؤرخ للمنطقة من خلال رؤية باحث مستشرق فرنسي خبير تجول بين عواصم المنطقة وعاش فيها وتعامل وتجادل مع سياسييها ومثقفيها ومفكريها.. الكتاب يحكي قصة دومينيك شفالييه الذي عرف العالم العربي خلال رحلاته ومهماته العملية وغيرها على المنطقة منذ نصف قرن.
شفالييه دّون انطباعاته وانفعالاته ورؤيته وثمرة بحثه الطويل وكل ما يراه ويسمعه ويلاحظه من سلوكيات نظرائه ومستقبليه, معلقاً عليها, معتمداً على مخزونه المعرفي عن التاريخ الإنساني بعموميته والشرق العربي بخصوصيته. بين دفتي الكتاب الذي ترجمه الى العربية صديقه الدكتور جمال الشلبي.
ويطرح شفالييه من خلال جزءيه وفصوله العشرة عدة قضايا محلية وعربية مثل قصة الصراع على السلطة بين القبائل العربية المعروفة, من أجل بناء دول عربية حديثة ممتدة في الشرق الأوسط العربي منذ بداية القرن العشرين الماضي إضافة الى بناء كيانات سياسية قابلة للحياة في عالم ما بعد الاستسلام بحيث يلعب العرب دورا يليق بتاريخهم وحضارتهم وواقعهم الجغرافي والحضاري.
كما لا يغفل الكتاب, الواقع في 288 صفحة من الحجم المتوسط,, قصة صراع الطوائف والأقليات في لبنان وسورية والعراق التي وجدت نفسها في دول اعدها الاستعمار, فاستمر فيها الصراع من أجل الحفاظ على الوضع القائم الذي حدد لها, دون أن يبرز لهذا الصراع نهاية, ولعل الأزمات الحالية في العراق ولبنان هي دلائل على صدقية هذه الرؤية.
أما مفاهيم الهوية, وبناء الدولة, والدين, والعلمانية, وأثر هذه المفاهيم على انتزاع السلطة, فهي حاضرة بقوة في هذا الكتاب, ليس فقط في الشرق العربي, بل في المغرب العربي أيضا.
فالعلاقة بين الدين والسياسة هي استغلال الرموز الدينية والتاريخ الديني من أجل إعطاء صبغة الشرعية السياسية لحكام هذه الدول الجديدة او الحديثة لا سيما وان للدين بعدا مهما في السياسة في عالمنا العربي وله تأثير كبير جدا على شعوب ومجتمعات هذه المنطقة من العالم.
ويقدم الكتاب اشارات وتلميحات ذكية من شفالييه الى الصراع العربي الإسرائيلي واحتلال العراق وهي اشارات ضد السياسات الإسرائيلية والأمريكية تجاه الأمة العربية مما يعني انحياز شفالييه لقضايانا العربية.
وفي بعض الفصول هناك جرأة في الطرق قد تتجاوز الخطوط الحمر فيما يخص السياسة الأردنية وحول ذلك يعلق الشلبي ان في العالم والمعرفة لا يوجد هناك خطوط حمر, هناك بحث دؤوب ومستمر عن الحقيقة وبالتالي لا اعتقد ان المؤلف بصفته الأكاديمية والحضارية يمكن ان يضع لنفسه خطوطا وهمية تسمى خطوط حمر. والكتاب هو انعكاس للعقل الغربي المتحرر والحر والذي يسعى إلى تقديم أكبر قدر من الدقة لإعطاء صورة ما.
كذلك ما طرحه شفالييه هي وجهات نظر تتعلق بالنظام السياسي والاجتماعي ليس فقط في الأردن بل وفي مجمل عالمنا العربي.
وللكاتب شفالييه علاقات مع رموز الفكر والثقافة في الأردن وكان يتردد على عمان باستمرار لكي يتعرف على تطور الاحداث والسياسات في المجتمع الأردني وبالنسبة إليه فان السياسة هي انعكاس للمجتمع ولذلك فان الانفتاح السياسي “الديمقراطية” لا يمكن مقارنتها بالديمقراطية الغربية إنما هي نوع خاص لمجتمع خاص في منطقة خاصة أطلق عليها “الديمقراطية القبلية” وهذا يشبه ما نطلقه على “الديمقراطية التوافقية” في لبنان.
وحاول شفالييه ان يصف عملية انتقال السلطة في الأردن بعد وفاة الملك حسين عبر وصف وجهة نظر الأمير حسن لهذا الموضوع.
يذكر شفالييه في احد الفصول: وصلت في 19 آذار 2002 إلى عمان, واستقبلت, أنا والسفير الفرنسي فيها برنار إيميه من قبل الأمير حسن
وقد بدا الأمير حسن كعادته متحدثا بليغا وإن كان يبدو عليه أنه يمر بلحظات عصيبة جدا. لحظات من الندم كانت تعود إلى ذهنه باستمرار, وهي حالة تنتابه دائما; فقد أبعد عن الحكم.
والأمير يعتمد على المثقفين وأساتذة الجامعات لكي يكون على تواصل تام مع رسالته التي يضعها فوق كل الخلافات وحالات العجز والتقصير لدى كل العرب الآخرين. نشر خلق إسلامي للسلام بين أصحاب الديانات السماوية الثلاث.
إن السلام الأخلاقي الذي يقترحه الأمير يجب أن يكون حقيقيا, ومن ثم سياسيا. وينادي الأمير بحوار مباشر مع القادة الإسرائيليين, ويزعم ان قدراته الخاصة وخبراته يمكنها أن توظف لتحقيق هذا الحوار بنجاح, فهو كما يقول “أنا شخصيا أستطيع أن اتحدث مع أرئيل شارون وليس مع الآخرين”. وقبل أيام من لقائي به, كان الأمير قد استقبل في واشنطن من قبل نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ووزير الخارجية كولن باول. وعندما زار وزارة الدفاع (البنتاغون) استقبل بثلة من حرس الشرف, إذ تأثر بهذا التقدير الذي كان يحظى به دائما عندما كان وليا للعهد, وفي هذا الكتاب يروي شفالييه قصة لقائه ابراهيم الصوص في عمان بترتيب من المستشارة الثقافية في السفارة الأمريكية هيلين فارنو فيقول: يبدي الصوص تخوفاته من المشروع الأمريكي الحالي الذي يستهدف استخدام الأردن لحل المشكلة الفلسطينية من دون سلطة فلسطينية او دولة فلسطينية. والمفاوضات في هذا الاتجاه قطعت شوطا طويلا بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية. وستقام مجموعة من الجسور والانفاق التي تسمح للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بالانتقال والتواصل مع بعضهم من دون الحاجة للمرور بإسرائيل او المستوطنات الإسرائيلية. وسيطبق نظام مشابه له تماما للمستوطنين الإسرائيليين لكي يكونوا على اتصال تام مع إسرائيل من دون ان يكونوا مضطرين للاحتكاك بالفلسطينيين, في حين ستضمن الشرطة الأردنية الأمن في الضفة الغربية.
بهذه الرؤية سيصبح الأردن من المفاتيح المهمة في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق. أما فيما يتعلق بالجولان فهناك اتصالات سورية إسرائيلية كانت قد جرت برعاية الإدارة الأمريكية لبوش. ويلاحظ إبراهيم الصوص بأن هناك شريحة واسعة من الفلسطينيين مصابة بخيبة امل, مرهقة, ومستغلة, وكل هذا لم يمنع, بل على العكس, وجود مافيا فلسطينية غنية جدا تقيم علاقات تجارية مع إسرائيل وتعمل على تطويرها, ان هذا التلاقي ما بين المافيا الفلسطينية والإسرائيلية يمثل خطرا حقيقيا برأي الصوص.
الكتاب غني بالانطباعات والأفكار وهو يدون ويؤرخ الاحداث والتطورات في المنطقة بنظرة شاملة ثاقبة ورؤية بخلجات القلب والعقل معا معتمدا على مخزونه المعرفي وتجربته الواسعة.
كانت هذه الحظوة سمة غائبة حاليا في تنقلاته.
الكتاب يقدم وجهات نظر قابلة للتغيير والنقاش ولم يطرح حقائق, ويقول الشلبي انه كمترجم فان دوره يحتم عليه ان ينقل النص بصدق وموضوعية واخلاص ولا يمكن ان يُحّرف أي كلمة او معنى او دلالة والا فسيفقد مصداقيته ومهنيته وروحه كمترجم وباحث.
وقدم شفالييه اسلوبا جديدا في التعامل مع القضايا العربية يعتمد على الحيادية والتحليل العلمي الرصين والنزاهة في الطرح وبالتالي اصبح الاستشراق يتسم حاليا بالسمة العلمية التي نبحث عنها جميعا كأكاديميين ومن المهم ان نتعرف على وجهة نظر اخرى تناقش قضايانا.
ويبّين الشلبي انه لهذه الاسباب قرر بصفته عربيا اولا وصديقا ثانيا ان يدعو لتنظيم ندوة يدعى لها عدد من تلاميذ شفالييه وأصدقائه للإدلاء برأيهم وأفكارهم وعلاقاتهم معه كرد جميل لهذا المستشرق الذي خدم امتنا العربية عبر تدريسه في جامعة السوربون وعبر مركز الاسلام المعاصر الذي اسسه واداره منذ عام 1976 وسيدعى لها مجموعة من العلماء والأساتذة من لبنان وتونس والجزائر والمغرب وفرنسا. وستعقد في الجامعة الهاشمية في ايار 2009 في الذكرى السنوية الأولى لوفاته. وستجمع اوراق المشاركين وتنشر في كتاب باللغتين العربية والفرنسية
ولد دومينيك أوليفيه شفالييه في عام 1928 في باريس, و تلقى شفالييه في طفولته ومراهقته تربية متسامحة, وقرأ كثيراً, وبدأ ممارسة الكتابة وبعض الفنون اليدوية. في العام 1955 التقى جاك بيرك في القاهرة الذي استدعاه في العام التالي للعمل معه في تلفيا في جبل لبنان. ومن أعالي المتن تابع شفالييه أزمة وحرب السويس عام 1956 وفي العام 1957 تم تعيينه باحثاً في المعهد الفرنسي للآثار في بيروت. ومن تجربته في تدريس التاريخ الحديث المعاصر لطلبة الليسانس في مدرسة الآداب العليا ببيروت عام 1957 أطلع على قضايا الشرق العربي في مجمله والخصائص الأصيلة لبناه العائلية والقبلية والنفوذ المتعالي لوحدانيته الدينية من خلال قراءاته لسجلات المجتمع اللبناني الذي استضاف كل اللاجئين السياسيين في المنطقة.
ثم انتقل الى دمشق وعين باحثاً في المعهد الفرنسي, كان شاهداً مباشراً على الآمال والحماسة التي استثارتها القومية العربية مجسدة بجمال عبد الناصر.
وخلال إقامته في القاهرة في ربيع 1960 أدخله طه حسين إلى أعماق النزعة الإنسانية الإسلامية محذراً إياه, في الوقت نفسه, من تلاعب الأنظمة السلطوية بالنصوص والكلمات و تم تعيين شفالييه استاذا محاضرا في كلية الآداب بجامعة تونس عام 1964 و أقام مع عائلته في قرطاج.
وقد شهدت السنوات اللاحقة لحظات نجاح عظيمة بصحبة الطلبة والباحثين الذين عملوا تحت إشرافه من الرجال والنساء والموهوبين الذين شاركوا في حلقاته البحثية. ففي الإشكاليات التي كان يطرحها وتحليلاته المجددة وشهاداته على التاريخ المعاصر للعالم العربي الإسلامي تتزاحم أسماء من بينها: هنري لورانس, مسعود ضاهر, أحمد بيضون, سمير قصير, ايريك رولو, ادوارد سعيد, عبدالعزيز بوتفليقة… وغيرهم.
ويقول الشلبي ان الدراسات والأفكار والمنهجية التي كان يعلمها شفالييه تقوم على “أن يكون المرء نفسه عبر الآخرين”. وقد نشرت دراساته في أعمال جماعية أشرف عليها مثل : “العرب من خلال أرشيفهم” عام ,1976 “واحياء العالم العربي 1952 – “1982 عام ,1987 و”العرب, الإسلام, أوروبا” ,1991 “و”العرب من الرسالة إلى التاريخ” عام ..1995 وغيرها.
وقد دعاه الشلبي بصفته رئيساً ومنسقاً الى الأردن مرتين للمشاركة في مؤتمر “العلاقات العربية الأوروبية بعد 11 سبتمبر” عام ,2005 ومؤتمر” رسالة في عيون الآخرين” عام 2006 اللذين نظمتهما الجامعة الهاشمية.
في لبنان عاش شفالييه المحن التي عاشها لبنان بين 1975-1989 وكان يزور لبنان كل سنة حيث كان يحظى بأصدقاء يتجاوزون كل الانقسامات. وكان يواصل أحاديثه المطولة مع رؤساء الجمهورية المتعاقبين, وكذلك مع رؤساء الوزارات. أما في الأردن فكانت له علاقة قوية مع الأمير الحسن بن طلال إذ كان يكن الكثير من الود للأمير. وقد كلفه الأمير برئاسة لجنة تاريخية عالمية لكتابة التاريخ العربي عام 2007 تضم بعض المؤرخين العرب المعروفين.
في عام 1997 أصبح “أستاذ شرف” في جامعة السوربون. لقد افتتح القرن 21 عصراً جديداً من تاريخ الإنسانية, ودخله دومينيك شفالييه بكتابه: “حبر الشرق, بين الحروب وصراع السلطة” الصادر عام .2003 وكان الشلبي قد تواعد مع دومينيك شفالييه قبل وفاته لتنظيم حفل توقيع لهذا الكتاب في شهر تموز 2008 الا أنه توفي.