درج الإعلام العربي منذ عقود، ولا زال حتى اللحظة، على التهرّب من لفظ اسم إسرائيل. بدل ذلك أطنب في اشتقاق وإغداق نعوت واستعارات عليها، خوفاً من أن يُتّهم بالتعامل مع الحقائق الراسخة على الأرض، أو حذراً من تخوينه من قِبَل «جبهات الصمود والتصدّي» في ما مضى من زمان، أو من قِبَل «الممانعين المقاومين» اليوم.
لا شكّ في أنّ القارئ العربي لا زال يعثر هنا وهناك في ساحات الخطاب الإعلامي العربي على تعابير مثل «الكيان المزعوم»، أو «دولة الكيان»، أو «دولة العصابات» وما إلى ذلك من نعوت تتفتّق عنها قرائح الكتّاب والإعلاميين من مشارق العرب إلى مغاربهم.
ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره، ما دام لا يقترب سبابه من المنظومات السياسية، الدينية والاجتماعية التي تنيخ عليه كلاكلها. بل، يسعنا القول أنّ إسرائيل هي بمثابة «الشيطان» الذي يُرمى بجمار الإعلاميين العرب في كلّ شاردة وواردة، أكانت لها علاقة بأحوالهم في بلادهم أم لا، فهم بذلك يكونون قد أمّنوا أنفسهم من مساءلات «الأخ الأكبر» الذي يترقّب كلّ خطوة يخطونها.
وإذا أشحنا بنظرنا قليلاً والتفتنا إلى ما هو حاصل في البلدان العربية، فماذا نحن واجدون؟ أمّة عربية يبلغ عديدها مئات الملايين من البشر هي أمّة مستهلكة وليست منتجة بأيّ حال. لا تمكن مواصلة ربط هذه الحال بالاستعمار الذي لم يعد له وجود منذ عقود. هنالك أمم كثيرة أخرى كان قد حكمها الاستعمار ذاته، غير أنّها انطلقت وسارت في ركب التطوّر بخلاف العرب الذين ظلّوا يقبعون في غياهب من الماضي الموهوم. ففي الوقت الذي ينظر الآخرون قدماً، يصرّ العرب على التشبّث بمواضيهم السالفة، أكانت هذه المواضي زمناً مأمولاً أو سلاحاً مفلولاً.
هل يستطيع المرء أن يشير إلى شيء ما في وسع العرب تقديمه إلى هذا العالم المعاصر؟ أين هي الجامعات والمعاهد التكنولوجية مقارنة بسائر العالم؟ أين هي الصناعات المتطوّرة في جميع مناحي الحياة؟ أين هي الاختراعات والاكتشافات العلمية؟ أين هي الحريّة للأفراد والمجتمعات؟ أين نساء العرب من كلّ هذا؟ أين العرب بأسرهم من كلّ ذلك؟ ماذا يصدّر العرب للعالم غير العمالة البسيطة الباحثة عن لقمة عيش، غير الإرهاب وغير اللاجئين الذين تقطّعت بهم السبل في أوطانهم التي دمّرها المستبدّون؟
هل «الوطن العربي»، وفق التعبير الشائع، هو حقّاً وطن للمواطن أم إنّه مسرح تتجاذبه العصبيّات التي لها أوّل وليس لها آخر؟ لننظر حولنا ونحاول الإجابة عن هذه الأسئلة لأنفسنا أوّلاً، هل العراق وطن حقّاً لشيعته، سنّيّيه، أكراده، إيزيدييه، أشورييه إلخ، أم إنّه كيان مزعوم تتناحر عليه العصابات بعصبيّاتها؟ وهل سورية هي حقّاً وطن السوريّين أم هي الأخرى كيان مزعوم مرؤوس من قِبَل مستبدّين دمّروا البلاد فوق رؤوس العباد؟ ألم تظهر ليبيا الآن على حقيقتها بوصفها كياناً مزعوماً ودولة عصابات؟ ثمّ خذوا هذا الكيان المزعوم الآخر المسمّى بلبنان. ألم يتمّ إنشاؤه منذ البدء بوصفه دولة عصابات طائفية؟ نستطيع الاستمرار في جردة الحساب هذه مع سائر السلطنات والممالك التي لا تختلف من ناحية الجوهر عن كلّ هذه الأوصاف.
في الحقيقة، لا حاجة إلى الحديث عن كلّ هذه المساحة العربية الشاسعة من العالم، إذ يكفي العربي أن ينظر إلى بلده الصغير، أكان هذا البلد قرية أو مدينة متعدّدة الطائفة، ويرى كيف تسير الأمور وكيف تُدار العلاقات وكيف تنخر العصبيّات كلّ ركن فيه. فكلّ بلدة في هذا المشرق هي عالم صغير يختزل الشرق بأسره.
على من ينشد الخروج من المآزق العربية أن يبدأ من هذا «العالم الصغير». فمنه تبدأ رحلة الألف ميل. ما لم يستطع الفرد العربيّ أن ينتقل بعالمه الصغير، قريته وبلدته ومدينته، إلى مرحلة متقدّمة فلن يفلح بشعاراته البلاغية تحويل مسار الشعب والوطن والأمّة إلى مراحل متقدّمة منشودة. فإنّ العصا، كما قالت العرب، من العُصيّة. أليس كذلك؟
* كاتب فلسطيني
الحياة