ماذا سيحصل لو صحونا ذات يوم على عنف وغضب في منطقة الخليج وسط انقسامات وانهيارات سياسية وعجز اداري ومطالبات بالحريات والمساواة؟ قد تكون الإجابة حاضرة: «شعوبنا لا تقوم بأي من هذا فنحن نختلف عن الايرانيين والبولنديين والبرتغاليين والكوريين؟». ولكن هل نعيش خطر الثورات والعنف في منطقة الخليج؟ الاجابة شاقة وصعبة، لكن دلالاتها قائمة في مسألة رئيسة: ان محدودية الحريات في منطقة الخليج والعالم العربي الاوسع لا تضمن الاستقرار البعيد الامد، كما ان تجربة الدول في منطقتنا مع حل الاشكالات الداخلية مع الآخر سواء كان فئة او طائفة او قبائل او أقاليم او نساء او مهنيين لا تبشر بالخير. ان التخلي عن اسلوب حل المعضلات بصورة استيعابية يشتري استقراراً لفترات من الزمن لكنه لا يحقق الاستقرار على المدى البعيد.
لنتذكر أن الذين تنبأوا بانهيار دول اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي قلة، وهذا ينطبق على الازمة الاقتصادية وعلى اسعار النفط والطاقة البديلة. الكوارث والتغيرات الكبرى قلما تجد من يتوقعها. وعبر التاريخ الحديث في القرن العشرين نجد أن الدول التي عانت من الانقلابات الشاملة هي تلك التي لم توفر حدوداً مقبولة لآليات الاصلاح والتغيير والحراك الذاتي. لقد فوجئ الباحثون على سبيل المثال ان الثورة الايرانية عام ١٩٧٩ وقعت بعد تحسن كبير في الوضع الاقتصادي الايراني وان الاسباب النفسية والسياسية المسببة للثورة كانت اكبر من الاسباب المادية والمالية.
ان دول الخليج في ظل الاوضاع الاقتصادية والسياسية والامنية الاقليمية والعالمية بحاجة ماسة الى إصلاحات سياسية تحترم التنوع والاختلاف وينتج عنها إبرام عقد اجتماعي جديد بين شعوب ومواطني دول مجلس التعاون من جهة، وبين الدولة ومؤسساتها وقادتها من جهة أخرى. فمن دون عقد جديد جوهره المشاركة لن يكون لهذه المنطقة مستقبل يتجاوز مرحلة النفط.
حتى الآن تتوقف السياسة في دول الخليج على الصدفة، فإن توافر حاكم ذي نظرة بعيدة وقدرات إصلاحية وخلق طيب وحرص على الناس، سارت الامور كما يجب وافضل مما يجب، وان لم يتوافر هذا النمط من القادة سارت الامور الى تراجع بأسرع من البرق. وفي الحالين تؤكد التجربة التاريخية أن الكثير من المحيطين بالقائد الفرد يخفون المعلومات السلبية ذات الأهمية ويدفعون بشكليات الامور الى الواجهة، وفي هذا الإخفاء والتضليل مقتل البلاد. فالمحيطون برأس السلطة يتحولون إلى لاعبين رئيسيين واصحاب امتيازات، ما يخلق لديهم مصلحة في إخفاء المعلومات والاستخفاف بالاختلاف والرأي الآخر. هذه الظاهرة تتحول الى مشكلة مرضية عندما تكون السلطة بيد فئة صغيرة ولمدد زمنية مفتوحة خاصة في ظل سيطرة على تداول المعلومات وحدود على حرية الاعلام. ان تمركز السلطة بأيدي فئة قليلة لعقود من الزمن مدخل لتراجعها وتفككها ولانهيار مشروع الدولة، وهذا الامر يمثل خطورة كبيرة نظراً لحداثة الدولة في منطقتنا. ان هذه المركزية في الادارة هي التي سببت في البداية سقوط الاتحاد السوفياتي وسقوط النظام الشيوعي في العالم وسقوط شاه ايران والكثير من الثورات في القرن العشرين.
في دول الخليج اعتاد السكان على عدم المبادرة وعلى انتظار الدولة وهباتها. ولا زالت الدولة في الخليج تلعب دوراً مركزياً في توظيف المواطنين حتى النخاع، إذ إن غالبيتهم تعمل في القطاع الحكومي المترهل في معظم الحالات، ما يساهم في تعطيل دور المواطنين في تنمية بلادهم وتحقيق ذواتهم. من هنا نما بين سكان المنطقة ضعف في الانتاجية وحالة عدم اكتراث ما يساهم في مشكلة اكبر: استيراد اعداد كبيرة من السكان من مشارق الارض ومغاربها للقيام بأعمال كان بإمكان المواطنين القيام بالكثير منها.
ان اساليب الحكم التقليدية ذات الطابع المركزي لن تحقق الرفاه والتقدم في المرحلة القادمة، كما انها لن تضمن مشاركة الناس الجادة في البناء والتنمية. فالناس لن تبني ما لا تعتبره ملكاً او حقاً لها. لهذا يجب أن تعني الوطنية مساواة سكان البلاد وحقهم في المساحة العامة وعلى رأسها السياسة وصناعتها. فالسياسة التي تعني وتؤثر في حياة الناس وتفيدهم كما تضر بهم يجب ان تكون شأنهم، ومن هنا أهمية دورهم في صناعتها.
ان فكرة الرعية والشعب المتلقي تتناقض مع التعليم الذي انتشر في منطقة الخليج كما تتناقض مع الطموحات والآمال التي تنتشر بين شعوب المنطقة. يجب ان تتغير نظرتنا الى الشعوب اولاً من متلقية مسيّرة الى شعوب فاعلة مخيّرة، وان وجدنا انها لا تمتلك الثقة بنفسها يجب ان نسعى لبناء هذه الثقة لأنها سبيلنا الوحيد لبناء مجتمعات قادرة على صون عالمها عبر المنافسة الشرعية والارتقاء الدائم. وهذا يعني انه يجب ان تتغير نظرتنا الى القيادة من غاية الى وسيلة لإحداث تنمية وخدمة المجتمع. يجب ان تتغير نظرتنا الى البناء والتنمية من تلك التي تقوم على مد الشوارع والبنى التحتية الى تلك التي تقوم على تلازم ذلك مع التنمية الانسانية.
ويجب التعامل ايجابياً مع مطالب المواطنين الخليجيين الضمنية والعلنية بتبني مزيد من المشاركة والحريات السياسية ومن ضمنها حرية الصحافة والتعبير. ان قمع هذه المطالب سيخلق الارضية للكبت السياسي والذي تتلازم معه انواع اخرى من الكبت الفكري والاجتماعي ما سيساهم في خلق مجتمعات عنيفة. فمن دون حرية الرأي والصحافة لن يكون هناك حوار علني حول قضايا البلاد. قلة قليلة من الفضائيات الخليجية الجديدة والحديثة الكثيرة، تناقش الوضع الداخلي وتنتقد صناع القرار. أليست العلنية والنقاش والرأي والرأي الآخر أفضل من الاتهامات التي يتم تناقلها سراً في ظل المبالغة والشائعات؟ اليس الغضب الذي يسود من لا صوت لهم هو احد مسببات العنف؟ ان تحقيق الشفافية والعلنية يخلق جدلاً ويجعل المسؤول في السلطة اكثر حساسية واحتراماً تجاه الرأي الأخر في المجتمع.
هذا التوجه سيساهم في تنمية البلاد في ظل مشاركة جماعية لأكثر من رأي وتصور. اذ لن تقع تنمية سياسية من دون وسائل تعبير منظمة لديها برامج ورؤى. بمعنى اخر ليست الديموقراطية انتخابات وبرلمانات فحسب وإنما هي قيم وحريات أساسية تتبناها النخبة بكل مكوناتها في الحكم وفي المعارضة وفي جميع مكونات المجتمع. ولكي تنجح التجربة الديموقراطية فإنها بحاجة إلى إعادة تعريف وتنمية دائمة وعقلنة وادارة اختلاف، وإلا تحولت هي الأخرى إلى تعبير آخر عن المأزق ذاته الذي يواجه الدول التي لا تحظى بالمشاركة الشعبية.
وعلينا ألّا ننسى أن هناك في الوسط الخليجي اتجاهات راديكالية عنيفة تمثل «القاعدة» أحد تعبيراتها، وهذا يمثل عملاً حزبياً عنيفاً وغير سلمي، فلكل مرض أسباب عميقة تتجاوز ما هو بارز للعيان. ولذلك فإن وجود تنظيمات سياسية ذات خطاب علني سلمي يساهم في امتصاص جانب من هذه النقمة المنتشرة بين قطاعات كبيرة من الشباب المهمّشين ممن يطمحون الى لعب دور سياسي. بل ان ابراز الطريق السلمي في التغيير هو الطريق الاسلم لتفادي طرق التغيير العنيفة التي نرى ارهاصات لها في مجتمعات الخليج.
ولكن كيف ننشئ دولاً متقدمة واقتصاداً مزدهراً بينما القضاء يميز في كثير من الاحيان بين مواطن وآخر وبين فرد وآخر على أساس سياسي موجه ما يزيد التفكك ويساهم في العنف الداخلي؟ ونتساءل: ماذا عن القوانين التي تميز بين المرأة والرجل في منطقة الخليج، والقوانين التي تميز بين أبناء الوطن الواحد من حيث منابتهم وأصولهم الاجتماعية بل ودرجة جنسيتهم؟ ألا يعكس هذا نقصاً حقيقياً في فهم الأسس العقلانية للدولة الحديثة وكيفية الحفاظ عليها؟ ألا يؤدي هذا التمييز إلى تحويل الاوطان الى قبائل وطوائف وطبقات وفئات ناقمة متصارعة عوضاً عن مجتمعات تمارس قبول الآخر والتعايش السلمي بين مكوناتها؟
ان منطقة الخليج الاستراتيجية والغنية كانت واحة استقرار لمرحلة طويلة، لكن الشعوب ازدادت عدداً وعلماً وثقافة وتنوراً، وما كان يرضيها في العقود الاولى من النفط لم يعد يرضيها الآن. كانت هذه الشعوب تبحث عن استقلال سياسي من الاستعمار او الحد من النفوذ الخارجي بينما تسعى لتأمين امنها الاجتماعي والاقتصادي. لكنها اليوم تبحث عن تحقيق ذاتها وصون كرامتها وشعورها بدورها الفردي والجماعي، لهذا نجد سعياً لمشاركة اكبر، والمشاركة الاكبر تتطلب مساواة حقيقية وصادقة وحقوقاً واضحة تؤسس للدخول في العمل السياسي.
* استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت.