خاس بـ”الشفاف”
ترجمة وتحرير : مصطفى إسماعيل
الوقتُ يمضي بسرعة، هو حقيقة كذلك. مضىت 22 سنة، لم يظهر إلى الآن من بإمكانه إيقاف الزمن، ربما كان ذلك جيداً، فإذا توقف الوقت أصبحت الحياة مملة.
محاولة إدراك الزمن الضائع يُظهرُ كم أنه جهدٌ عقيم، إذ المفهوم أن السنوات تتدفقُ بسرعة.
يتبدى الوقت في هذه القرية وكأنه متوقفٌ.. هنا خضرة أشجار الصنوبر مع أزرق البحر المتوسط ورائحة الزعتر التي تنفذ إلى أنفي مع ريحٍ خفيفة، أنا بمفردي مع صوت المياه التي تضربُ أسفل القارب رشقةً.. رشقةْ.
لكن “الآيباد في يدي”، أبحثُ في الانترنت عن موضوعٍ لكتابةٍ خالية هذه المرة من رئيس الوزراء أردوغان. ويأتي الخبر:
تم انتخاب د. فؤاد معصوم رئيساً للعراق.
التقيت بـ د. فؤاد معصوم الرئيس الجديد للعراق قبل 22 عاماً. كان حينها رئيساً لوزراء إقليم كردستان العراق.
حوار مع فؤاد معصوم في أربيل عام 1992..
أنظر إلى الصورة، نعم، هذا د. معصوم الذي أعرفه، لقد كبر سناً.
بجانب الخبر صورة أخرى: الرئيس العراقي جلال الطالباني يصوِّت لخليفته من على كرسيه المتحرك.
المرة الأخيرة التي التقيت بالـ”مام جلال” فيها كانت في السليمانية في نوفمبر 2012. وقد تحدثنا حينها لساعاتٍ طوال. لم يكن وضعه الصحي جيداً، كان وزنه زائداً كثيراً، كان يتكئ على عكازه ويسير بصعوبة.
كما درجت العادة لديه كان قد أوعز بتجهيز مائدة عامرة، لكنه كان يتناول القليل من الطعام. كان يشير بيده إلى الطبيب الواقف خلفه ممازحاً “إنه لا يسمح لي”.
مام جلال يحب الطعام. وفي كل مرة يجلس فيها على المائدة كان لا ينسى قولَ: “الضيف فرح المضيف”.
بعد بضعة أسابيع من لقائنا في السليمانية تعرض مام جلال لنزيف في الدماغ. وقد تم نقله إلى أحد مشافي برلين ليتلقى العلاج طيلة سنة ونصف، وقد فرحتُ لأنه تعافى وعاد إلى مدينته السليمانية مؤخراً.
أنا متأكدٌ أن مام جلال قد قام بالتصويت في انتخاب رئيس جمهورية العراق لصالح صديق طفولته ورفيق دربه د. فؤاد معصوم.
كنت قد تعرفت إلى د. فؤاد معصوم في الفترة الزمنية نفسها، في أكتوبر 1992. كنت حينها أعمل في صحيفة صباح Sabah, وقد قام جلال الطالباني الذي التقيته لساعات طوال في منطقة شقلاوة بإقليم كردستان العراق بوساطة الكاتب الصحافي جنكيز تشاندار بحجز موعدٍ لي مع د. فؤاد معصوم. نعم, مضى على ذلك 22 عاماً.
درس الفلسفة الإسلامية وتوجه إلى الجبل..
أكتوبر 1992
قلنا لسائق التكسي أمام فندق شيرين بالاس في أربيل: إلى رئاسة مجلس الوزراء.
سأل السائق : تقصد برلمان كردستان؟.
إذ كانت رئاسة الوزراء والبرلمان في المبنى نفسه.
قبل خمسة أشهر, وبعد الانتخابات العامة التي أجريت في مايو 1992 أسمي البرلمان المشكّل رسمياً بـ: المجلس الوطني لكردستان, كما أسمي مجلس الوزراء بـ: مجلس الوزراء المؤقت لكردستان العراق.
في اللغة الرسمية كان يطلق على المكان تسمية: كردستان العراق، ولكن الجميع كان يلفظ فقط كلمة “كردستان”.
كان شمال العراق الأرض الكردية المحررة. مهما عانوا من الفقر وسوء الأحوال إلا أنهم كانوا سعداء جداً لأنهم بعيدون عن متناول صدام حسين. وكانوا يشعرون بالارتياح للخطوات على طريق التحول إلى دولة، وكان واضحاً حماسهم لذلك, وكان رئيس الوزراء د. فؤاد معصوم يعيش في الجو نفسه.
أسأل عن الدولة الكردية الفيدرالية في العراق، فيجيبني د. فؤاد: “لدينا الآن ما هو أكثر من الدولة الفيدرالية”، مضيفاً “الفيدرالية شيء متعلق بالمستقبل، فنحن نتحدث عن الدولة الفيدرالية لأننا لا نريد تقسيم العراق ولأننا حريصون على إظهار حرصنا على وحدة العراق”.
أثناء حديثي معه، أشار جلال الطالباني إلى أجواء عدم الارتياح السائدة في المحيط الكردي من تطابق كلمة كردستان والانفصال.
حتى أن الطالباني يعتقد أن حزب العمال الكردستاني بحديثه عن الانفصال إنما يلعب لعبة صدام حسين في هذا الصدد (حديث الطالباني عن موقف العمال الكردستاني في 1992): إنهم – كرد العراق – يتهربون من لفظ تعبير “الدولة الكردية المستقلة”, ويرعون ذلك.
هناك سبب واحد فقط لذلك: عدم الإساءة إلى تركيا.
أعتقد أن تلقين واشنطن للثنائي البارزاني – الطالباني هو في هذا الاتجاه: “إذا كنتما تريدان الحفاظ على علاقات جيدة مع أنقرة، عليكما إبداء الحرص على وحدة العراق في كل مناسبة”.
مع ذلك، وكما قال رئيس الوزراء د. فؤاد معصوم حينها، فإن الوضع في شمال العراق يتجاوز “الدولة الفيدرالية “، وحين تتحدث عن “الدولة الفيدرالية” فإن الناس هناك ينظرون إليك مستغربين: “ما هذا؟ “.
د. فؤاد معصوم في الرابعة والخمسين من عمره (عام 1992)، ودرس الفلسفة في بغداد، وحاصل على الدكتوراة في الفلسفة، وتاريخ التحاقه بالثورة في الجبل عام 1978.
قبل مغادرته إلى الجبل جاء إلى أرضروم. وقد اجتاز الحدود عند أطراف هكاري لينضم إلى البيشمركة.
يحصي د. معصوم لي القوانين التي أقرها البرلمان، آخرها القوانين المتعلقة بالجمارك والضرائب.
لا يصرفون الأموال، يقولون أنها اختصاص الحكومة المركزية.
ليس لديهم أعلام، والمدارس مفتوحة، التعليم باللغة الكردية مستمر. وقد تم تشكيل لجنة لمراجعة الكتب المدرسية، وأنهت اللجنة للتو إعداد الكتب المتعلقة بالتاريخ والقومية الكردية. هناك بث إذاعي وتلفزيوني باللغة الكردية. في غضون أسابيع سيكون البث الإذاعي والتلفزيوني في متناول المتابعين في تركيا، وسيكون هناك بث باللغة التركية أيضاً.
حين التقيت بمسؤول استخباراتي رفيع في أنقرة، استمعت منه إلى كيفية مراقبتهم لتطور استخدام اللغة الكردية في شمال العراق، وأكاديمية اللغة في أربيل، والمسرح الكردي انطلاقاً من عام 1970.
هناك شباب كرد يتوجهون من جنوب شرق البلاد (كردستان تركيا) للدراسة في جامعة أربيل.
إضافة إلى البيشمركة في شمال العراق، يتم إنشاء جيش نظامي وقوة شرطة، وقد بدأت قوات الجيش والشرطة بالظهور في الشوارع بالزي الرسمي والقبعات الجديدة.
أما التحديات التي تواجه الإقليم فإن رئيس الحكومة د. فؤاد معصوم يشير إلى :
التجارة والوضع الاقتصادي، الاتصالات، السفر إلى الخارج (بمعنى مشكلة انعدام جواز السفر), ويقول: “ننتظر الشركات التركية، فلتأتِ, ليستثمروا”، فكردستان العراق بمعزلٍ عن العالم الخارجي.
في أربيل وجوارها كانت هناك فقط ثلاثة هواتف للاتصال عن طريق الأقمار الاصطناعية، وليست هناك شبكة اتصالات هاتفية بين المدن في الإقليم.
ماذا في حال تأسست سلطة مشابهة لسلطة صدام حسين؟””
يعد صدام حسين بالنسبة للكرد كابوساً,،وهم لا يريدون مجرد التفكير بالاندراج مجدداً تحت سلطة صدام حسين أو شبيه لنظامه.
سألت جلال الطالباني: “ماذا ستفعلون في حال وصول ضابط بعثي شبيه بصدام إلى كرسي الحكم في بغداد بانقلاب عسكري؟”. أجابني: “لن يحدث ذلك. لقد تغير العالم، وانتهت حقبة الحرب الباردة. حقوق الإنسان والديمقراطية الآن على رأس الأجندات في العالم، ثم أن الكرد اكتشفوا قوة التلفزيون كوسيلة إعلامية “.
في بغداد.. بعد صدام
بعد هذه الكتابة بأحد عشر عاماً التقيت بجلال الطالباني في مايو 2003 ولكن هذه المرة في بغداد. كان برفقته د. فؤاد معصوم, وكان الإثنان فرحين، وقال المام جلال: “كيف لا نفرح؟ انظر، نحن الآن في بغداد، ولا صدام الآن “.
يا للسنوات إذ تمضي مسرعة”.
• المصدر : الصحيفة الالكترونية التركية t24.
* الكاتب التركي المعروف حسن جمال يعد من أبرز الكتاب والصحافيين الأتراك