كان اليوم واحدا من أيام فبراير عام 2000 عندما أخبر الزميل العزيز طلال سلمان بعثة «الأهرام» الصحافية فى بيروت أن بوسعها مقابلة السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب «الله» فى المساء، وأن سيارة سوف تأتي لاقتيادنا إلى مكان اللقاء. وكان ذلك ما حدث، وبعد عدة دورات في شوارع العاصمة اللبنانية توقفت سيارتنا أمام نقطة تفتيش عسكرية تم فيها السؤال عن أسمائنا والتأكد من جوازات سفرنا، ومن بعدها دخلنا إلى ما عرفنا فيما بعد أن اسمه «ضاحية بيروت الجنوبية»، حيث توقفنا أمام مبنى من عدة طوابق صعدنا إلى واحد منها لكي ندخل إلى حجرة واسعة لم يكن فيها إلا علم حزب الله، أما علم لبنان فلا وجود له. وهكذا تغيرت طبيعة اللقاء تماما، حيث كان ظننا ساعتها أننا نقابل واحدا من قيادات «المقاومة» اللبنانية الذي تفرض عليه مقاومته احتياطات بعينها لكي يظل بعيدا عن العمليات الإجرامية الإسرائيلية. فما وجدناه فعلا هو أننا لم نقابل واحدا من زعماء الكفاح ضد إسرائيل، وإنما كان قائدا لدولة أخرى قاعدتها في ذلك الوقت ضاحية بيروت الجنوبية، أما بقيتها فتوجد في الجنوب اللبناني وفي كل منطقة استطاع فيها حزب الله أن يقيم حواجز للتفتيش ومراقبة جوازات السفر.
ما جرى في اللقاء مع السيد حسن نصر الله تم نشره منذ زمن بعيد، ولكن دولة الإمام في ضاحية بيروت الجنوبية المستقلة عن بقية الدولة اللبنانية تظهر أمامنا من وقت إلى آخر لأنها بالفعل تصدق أن ما سمحت به الظروف اللبنانية من قيام دولة داخل الدولة، يمكنه أن يفرض شرعيته على بقية الدول العربية بل والعالم كله أيضا. ولا يحتاج الأمر إلى التذكير بأن فضيلته قاد حربا كاملة على إسرائيل آخذا الدولة اللبنانية معه بسبب أخطاء في الحساب. وعندما دفع اللبنانيون ثمنا فادحا من سيادتهم كان الطلب، والفرض، أن تكون دولة ضاحية بيروت الجنوبية شريكا في السلطة على لبنان كلها، وهي شراكة تعطيها حق الفيتو على كل قرار طالما أن الفيتو يستند دائما إلى سلاح يهدد طوال الوقت بالعودة إلى الحرب الأهلية التي لا يريدها أحد.
ولكن، كما أن أهل مكة أدرى بشعابها، فإن أهل لبنان هم الأعلم بظروفهم، أعانهم الله وسدد على طريق الحق خطاهم، وما يهمنا هنا، في هذا المقال هو أمر القاهرة، وبلدنا مصر. فقد أعلن السيد حسن نصر الله أن الحزب سوف يسعى لإيجاد معالجة دبلوماسية وسياسية لقضية خلية الحزب في مصر. لاحظ هنا اللغة التي يتحدث بها الأمين العام لأحد الأحزاب اللبنانية، فهو لا يلجأ إلى الدولة اللبنانية للتدخل في الواقعة إلى جانب المتهمين اللبنانيين، وهو لا يطلب من أحزاب لبنانية أن تساعده أو تقف إلى جواره في مساندة أعضاء في حزبه تمت إدانتهم في القاهرة، وهو لا يناشد الرأي العام اللبناني أو العربي أو العالمي لكي يقف إلى جانبه في قضية يعتقد في عدالتها، ولكن ما حدث أن الرجل مد دولة ضاحية بيروت الجنوبية على استقامتها وقرر البحث عن «معالجة دبلوماسية وسياسية» كما لو كان عضوا في جامعة الدول العربية أو حتى الأمم المتحدة. أليس هذا ما يفعله رؤساء الدول وليس زعماء الأحزاب؟!
ولمن لا يعلم، أو لا يتذكر، فإن أجهزة الأمن المصرية اكتشفت منذ شهور خلية إرهابية تعمل في مصر بتوجيه من حزب الله ومن خلال عناصر لبنانية قامت بتجنيد شبكة من المصريين والفلسطينيين للقيام بعمليات عسكرية. في ذلك الوقت اعترف السيد حسن نصر الله بأن حزبه قام بذلك بالفعل من أجل مساندة الشعب الفلسطيني في كفاحه المشروع من أجل تحرير أراضيه المسلوبة. وبعد إجراء التحقيقات والمحاكمات ظهر أن المسألة ليست لها علاقة مباشرة بالقضية الفلسطينية بأكثر مما هي علاقة فكرة دولة ضاحية بيروت الجنوبية بفكرة الدولة الشرعية. فما حدث أن حزب الله حاول بناء شبكة إرهابية على الأراضي المصرية، وكما هو الحال في كل شبكات الإرهاب، فقد كان لا بد من تهريب للسلاح، وتخزين للمفرقعات، وتجنيد لعناصر محلية، وبناء شبكات للحصول على السلاح من الخارج (إيران)، حيث لم تتوافر لدى حزب الله القدرات الصناعية لتصنيع الأسلحة بعد. وبعد ذلك تبدأ عمليات المسح الجغرافي لاختيار أهداف العمليات، وتحقيق الروابط مع نقاط نقل السلاح في السودان والبحر الأحمر واليمن. وكان ما كشفت عنه المحاكمات أن نتائج ذلك كله كانت وضع السياحة في سيناء تحت التهديد المباشر، ومرور الناقلات البحرية في قناة السويس تحت نفس التهديد. مثل ذلك لا يمكن تسميته في كل قواميس دول العالم إلا تهديدا للأمن القومي المصري، وهو التهديد الذي يريد الإمام حسن نصر الله أن تتجاوزه مصر بمعالجة سياسية ودبلوماسية، حيث لا مكان لاعتذار للشعب المصري أو الدولة المصرية، أو شعور بالأسف لأن أخطاء أخرى في الحساب تمت، أو مراجعة، لأن دولة ضاحية بيروت الجنوبية ربما تكون دولة في الأعراف اللبنانية، ولكنها ليست دولة في أي من التقاليد الدولية المعروفة، حيث لا يعرف العالم إلا دولة واحدة للبنان التي يجلس شعبها ورئيسها تحت علمها، ويمثلها في الأمم المتحدة بعثة تقول إنها تمثل الشعب اللبناني كله، ولديها حكومة هي وحدها صاحبة الحق في المعالجات الدبلوماسية والسياسية.
ولكن ما هو أكثر من ذلك أن المسألة برمتها لها أكثر من جانب. أولها، أن القضية الفلسطينية باتت بالفعل قميص عثمان الذي يستخدمه كل من يرتكب جريمة في عالمنا العربي. وليس صدفة أبدا أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر صفقت للسيد حسن نصر الله، وإلى جانبه بدأت في جمع أموال لإعانة الشعب الفلسطيني «الشقيق»، وبالطبع لا توجد جهة تعرف إلى أين توجه المدافع التي جاء بها حزب الله أو الأموال التي جمعها الإخوان. الغريب في ذلك كله، أن مثل هذا الجهد يجري على أرض الدولة المصرية التي دخلت مع إسرائيل في خمس حروب، وهي الوحيدة التي أثبتت القدرة على استعادة أراضيها المحتلة بكاملها، وهي الجالسة على الحدود مع غزة تقدم الدواء والغذاء وتحاول المصالحة وتتوسط بين الجميع من أجل الشعب الفلسطيني. وبالتأكيد فإنه ليس مفهوما للشعب المصري ودولته، كيف يكون ثمن الدفاع عن الشعب الفلسطيني القيام بعمليات إرهابية على أرض سيناء تقتل المصريين قبل السائحين كما حدث في طابا وشرم الشيخ ودهب، والعمل على وقف الملاحة في قناة السويس. وثانيها، فإن مثل ذلك يظهر بجلاء البعد الإيراني للقضية كلها، فهو ليس موجودا فقط بالسلاح المستورد وروابط شركات الإرهاب، ولكنه يكشف عن الاستراتيجية العسكرية الإيرانية حال وجود مواجهة عسكرية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها. هنا فإن شبكة حزب الله في مصر ليست صدفة أوجبتها الشفقة على الشعب الفلسطيني، وإنما هي جزء من استراتيجية كاملة لها منطقها الخاص ولكن لا يوجد لدى مصر أي مصلحة حالية أو مستقبلية أن تكون جزءا منها. وربما كانت دولة ضاحية بيروت الجنوبية هي أول من تعرف فكرة مصالح الدول، فعندما قامت إسرائيل بغزو غزة كان السيد حسن نصر الله أول من تنصل من الصواريخ التي انطلقت من لبنان، وكان الرجل في ذلك متسقا مع مصالح دولته التي تحدد وحدها ساعة الحرب والسلام، ولكنه لا يريد إعطاء نفس الحق إلى أقدم دولة حقيقية في التاريخ.
لقد قال القضاء المصري كلمته بحكم هو عنوان الحقيقة، ومع الحكم شاهت وجوه مصرية تهكمت على ما لاقاه الأمن القومي المصري من تهديد، وكان فيه رسالة لمن لا يعلم في دولة ضاحية بيروت الجنوبية أن مصر لا تتعامل بالسياسة والدبلوماسية مع دول الضواحي، وإنما مع الدولة اللبنانية التي لها وحدها الحق الشرعي في التعامل مع الدول الأخرى.