أزعم، بلا تردد، ان كشف وزير الاشغال “فضيحة” زميله وزير المال، و”الفضائح”الاخرى، لم يهز الرأي العام. فرائحة النفعية والانتهازية والوصولية، واستغلال النفوذ، والتحايل على القانون، تزكم أنوف اللبنانيين، حتى ادمنوا “عطرها”، وما عادوا يبالون بما يستجد عليها، أو ما ينكشف من سترها.
هي من “الارث الوطني”، ولا تختلف صورتها اليوم، عما كانت عليه بالأمس، سوى في اتساعها وتنوع وجوه الانتهاز مع تقدم المجتمع، والمعرفة.
الفارق الآخر، ان أهل صيغة 1943، كانوا يعرفون “العيب”، حتى من كان يحصد الثروات بطرق ملتوية. كان لديهم وجل من الرأي العام، وخجل. يوم لم يكن هناك ما يسمي “المجتمع المدني”. فرئيس مجلس النواب، المرحوم صبري حمادة اتهم، اعلاميا، بتهريب المخدرات، من البقاع الى الخارج، بطائرات صغيرة تنطلق من مطار أقيم على عجل في قرية حزين، في بعلبك، فكان ان اصطحب مجموعة من الصحافيين، في اليوم التالي لنشر الاشاعة، ليريهم القرية ومنطقتها، ليكذب، ما أسيء به اليه.اليوم، لا أحد يكذّب.
مع وقف الحرب، وإبانها، لم يعد للعيب معنى لدى اللبنانيين: تكرست السرقة شطارة، والاستغلال ذكاء، والتمسك بالقانون بلاهة.
يعرف اللبنانيون انهم ضحية استغباء متمادٍ، صار من طبيعة الحياة العامة. ولو أحيا كل منهم بعضا من التمرد في داخله، لما رأى في اغلبية سياسييه وقياداته ومسؤولي الدولة والقطاع الخاص، سوى سالبين وناهبين لحقوقه. لكأن تربة هذا الوطن، وهواؤه وماؤه (وربما نفطه غدا) تبث جميعاً، بذرة الفساد في كل منا، بتفاوت يتناسب والمقام والفرص.
ولا عجب. فالطبقة السياسية، في اغلب وجوهها، تتحدر من بيئة الميليشيات التي حكمت البلاد 30 عاماً، نصفها برعاية نظام الوصاية، وبتقاسم معه.
واذا كان الوزير كشف في مؤتمره، “الفساد” في صورة الاستفادة من مال الدولة، فالواقع أن هذا يمتد الى وجوه أخرى، منها مثلاً، تجارة ما يزعم انه ادوية اعشاب، يصدر حكم بمنعها، فيشارك صاحبها زوجة مسؤول، أو حزبا بعينه، فيكتسب “شرعية”، أو إنتاج الكابتاغون، والتهريب “الشرعي” عبر المرفأ. وكذا التهرب من الضرائب، واحتلال الشاطئ، ومصادرة املاك وقفية (بحيلة قانونية)، و”التسهيلات” عبر المطار، والتلزيمات والمناقصات.
حين يتحدث اللبنانيون عن الفساد، يستوقفهم ما يدور في الدوائر الرسمية، لا سيما “الدسم” منها. لكنهم يغفلون ان “كبار” القوم عظُم فسادهم، وكثُر مالهم، فخرجوا من اطار الاتهام. لكنهم لن يجرؤوا يوما على كشف مصدر ثرواتهم. لكن اللبنانيين يعرفون بعضهم حلة ونسبا. والمال يعمي الحقيقة ويدفنها، لكن ليس إلى الأبد.
كان أهل اسبارطة يعيرون السارق لا بما يفعل، بل بأنه غبي قبض عليه.
اللبنانيون لم يتخطوا هذا “الرقي”. يعجبون بـ”السارق الكبير”، ويعيرون الصغار الأغبياء.
دولة بلا قانون. دولة بلا قيم.
rached.fayed@annahar.com.lb