ينبغي على الزائر أن يبرز تصريحاً بالزيارة، وأن يبرز جواز سفره، وأن يسمح بتفتيش سيارته قبل الدخول إلى مقر “الجزيرة” في “الدوحة” الذي تم تشديد الإجراءات الأمنية حوله في الآونة الأخيرة. ويقول “علي”، وهو أحد صحفيي “الجزيرة”: “مواقفنا ضد سوريا تجعل منا هدفاً. ولحسن الحظ، فقد تم بناء استوديوهات تحت الأرض تسمح لنا بالبث حتى لو تعرّضنا للقصف”! وقد أشار لنا إلى ورشة “الجزيرة الرياضية”، وهي المولود الأخير لإمبراطورية “الجزيرة” التي تحتفل الآن بوجودها منذ 15 سنة. وقد تحوّلت “علبة الكبريت”، كما سمّاها حسني مبارك ساخراً، إلى عملاق يهزّ الأنظمة العربية. وتضم “الجزيرة” محطة إخبارية بالعربية والإنكليزية، ومحطة مخصصة للأخبار، و17 قناة، بينها 15 مشفّرة، ومحطة ثالثة مخصصة للأطفال.
وبعد الإعلان عن شراء حق بث بطولة العالم لكرة القدم، وإطلاق قناة “أخبار رياضية” باللغة الفرنسية، فقد باتت أوروبا الهدفَ التالي للإمارة الغازية الصغيرة جداً والغنية جداً. إن قطر لاعب لا حدود لطموحاته بدفعٍ من الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الذي يثني البعض على رؤياه الواسعة في حين يعتبره سواهم مريضاً بأوهام العَظَمة. وحينما أطاح بوالده في العام 1996، فقد سعى الأمير الجديد لحماية نفسه من جاره السعودي ولإيجاد مكانٍ على خريطة العالم لبلده الصغير الذي لا تزيد مساحته على مساحة جزيرة “كورسيكا” الفرنسية. وبدا الرهان مجنوناً في حينه. ولكن القاعدة العسكرية التي أنشأها الجيش الأميركي في ضاحية مدينة “الدوحة” وفّرت لأمير قطر “بوليصة التأمين على الحياة” التي كان يرغب بها. وبعد ذلك، أصبحت “الجزيرة” أداةً لديبلوماسيته النشطة، وذراعاً لمد نفوذه.
إذاعة بالصور
ولم ينقضِ وقت طويل حتى أصبحت “الجزيرة” ما يعادل “صوت العرب”، وأفلحت في خرق الإحتكار الذي كانت تمارسه الـ”سي إن إن” والـ”بي بي سي”. وكان الجمهور على الموعد. ولكن، بالتدريج، بدأت مصداقية “الجزيرة” تتدهور بسبب غزلها الواضح جداً مع الإسلاميين المتطرّفين. فاختار أسامة بن لادن “الجزيرة” لإعلان أول ردّ فعل له على هجمات 11 سبتمبر 2001. وفي أعقاب سقوط صدام حسين في العام 2003، عثر جهاز “سي آي أي” الأميركي على وثائق في بغداد تكشف علاقات سرية بين الديكتاتور العراقي وقناة “الجزيرة”. وفي تلك الظروف، قام أمير قطر بتغيير إدارة القناة وعيّن الفلسطيني القريب من حركة “حماس”، “وضّاح خنفر”، مديراً لها. ولكن ذلك لم يضع حدّاً للإنحرافات. فحينما قام وزير خارجية فرنسا، “ميشال بارنييه”، في خريف العام 2004، بتوجيه نداءٍ عبر “الجزيرة” لإطلاق سراح الرهائن الفرنسيين في العراق، فقد جاء “وضّاح خنفر”، بعد انتهاء التسجيل، ليقترح عليه تعديل لهجة النداء لكي يصبح أكثر قبولاً لدى الخاطفين الذين كانت تجمعهم صلات وثيقة جداً بمراسلي “الجزيرة” في بغداد!
الإعلام- والبروباغندا (الدعاية الموجّهة): ومرة أخرى، مع بدء الثورات العربية، فقد تجاوزت قناة “الجزيرة” الخطوط “المهنيّة” وباتت بمثابة صدى مكبّر لهتافات الثائرين التونسيين، واليمنيين، والمصريين، مع أن ذلك حوّلها إلى ما يشبه “إذاعة بالصور”. ويتذكّر أحد صحفيي “الجزيرة” أن المحطة “في القاهرة، كانت كاميراتنا مصوّبة إلى “ميدان التحرير” 24 ساعة على 24، وكان عملنا يقتصر على المقابلات بالهاتف مع الثوّار الشبّان. ولم نكن نتحقّق من أية معلومة”!
إن “الجزيرة” قناة غريبة. فمواردها المالية هائلة- ميزانيتها تقارب 1 مليار دولار- سوى أنها خاسرة مالياً. ولا يهمّها كثيراً أن تخلو شاشتها من الإعلانات. فهي تُمَوَّل من دولة مبذّرة- إلى درجة أنها تسمح لنفسها، مثلاً، بتخصيص 1800 “أورو” كمصاريف يومية لكي قاضي قطري يدرس في فرنسا!
في ممرات مقرّ “الجزيرة”، ليس مسموحاً لأحد أن يتحدث إلى صحفي أجنبي. ولكن، إذا كان الحديث “ليس للنشر بإسم صاحبه”، فإن الألسن تفلت من الرقابة وتجمع كلها على خلاصة واحدة: أن مصداقية “الجزيرة” تدهورت في عدة بلدان عربية. وقال لنا أحد كوادر “الجزيرة”، أثناء حديث في “الكافيتريا” التي تجمع بين نساء محجّبات ونساء بالجينز، أن “الأمير أدرك أنه لا بد من تصحيح المسار، وإلا فإن “الجزيرة” ستفقد قدرتها على التأثير في الجمهور”. وفي آخر شهر سبتمبر، أعلن عن إقالة “وضاخ خنفر”، الذي ظلّ موظّفاً في مجموعة “الجزيرة” بانتظار تعيينه للقيام بمهمة أخرى قد تكون تأسيس وكالة أنباء عربية شاملة.
6000 موظف
لقد استعادت العائلة الحاكمة السيطرة على القناة عبر تعيين أحد أعضائها على رأسها: وهو الشيخ أحمد بن جاسم، ومهنته الأصلية مهندس في صناعة النفط. وأعلن المدير الجديد في أول لقاء له مع الصحفيين أن “على الجزيرة أن تعود إلى ما كانت عليه في بداياتها: واضحة، وصافية، ودقيقة”. وقد عهد إلى صحفي قديم في المحطة، سبق له العمل في “بي بي سي”، وهو “إبراهيم هلال”- وهو ليس “إسلامياً”- أن “يحسّن شروط المهنية عبر فرض مدة دقيقتين لعرض الموضوع الواحد”. ولكي لا تصدم القطريين، وهم بأغلبيتهم مسلمون محافظون، فإن لهجة “الجزيرة” تظلّ “إسلامية” إلى حدّ ما، ولكن القناة تلقّت تعليمات بعدم مهاجمة الأميركيين الذين سيتعذّر على قطر بدونهم أن تلعب الدور النشيط الذي تلعبه الآن في سوريا وفي ليبيا.
كما سيكون على المدير الجديد، الشيخ أحمد بن جاسم، أن يضبط نموّ المجموعة الذي تضاعف عدد العاملين فيها 4 مرات (6000 موظف). ووقعت في السنوات الأخيرة عمليات إختلاس في “الجزيرة للأطفال”، التي أعفي مدير “محمود بوناب” من منصبه قبل مدة قصيرة. وقد اتّهم بالمبالغة في فَوتَرة أسعار شراء الأفلام الوثائقية، وهي يخضع حالياً للتحقيق، كما أنه ممنوع من مغادرة قطر. وتم تعيين القطرية “هيا النصر” بدلاً عنه، وكانت قبل ذلك مديرة الإتصالات في مؤسسة الشيخة موزة- وهي مؤسسة متخصصة بالتعليم تملكها الزوجة الثانية، الطموحة جداً، لأمير قطر. ومرة أخرى، فمهمة المديرة الجديدة هي إحكام قبضة العائلة الحاكمة على القناة المخصصة للناشئة والتي تملكها “مؤسسة قطر”. من جهة أخرى، هنالك معلومات حول تأسيس محطة بالعربية للمراهقين. ويقول خبير فرنسي أن “تقوية دائرة الشباب يعني تعزيز الحصّة التي ستحتفظ بها الشيخة موزة حينما يصل وريث الشيخ حمد إلى سدة الحكم. كما أن وجود موظفة قطرية على رأس قسم الأطفال يرمي إلى إعلان أن القطريّين باتوا اليوم هم المسؤولين عن تعليم شعبهم”.
“عُد في آخر العام 2012، وستجد “جزيرة” جديدة”، قال لي “المنتج” العراقي “عدي خطيب”. وأضاف: “أصبحنا أكثر انفتاحاً الآن. وقد تلقيت توصيات بدعوة أفضل الإختصاصيين”. ويبدي صحفي مغربي يعمل في “الجزيرة” أسفه قائلاً: “توقّعنا تغييرات في خط التحرير، ولكن الرقابات ما تزال موجودة”. وهو ينحي بالمسؤولية على رئيس مجلس الإدارة، الشيخ أحمد بن ثامر، وهو عضو في العائلة الحاكمة ويُعتَبَر من المحافظين. ويقول آخر: “الجزيرة تشبه مصر، فقد تمّ تغيير الزعيم، ولكن نظام خنفر ما زال قائماً”. وقد أطلعنا على تعميم أرسلته إدارة “الجزيرة” لتوّها تحذّر فيه موظفيها من “سوء إستخدام الفايس بوك”، الأمر الذي يدعو للسخرية حيث أن الشبكات الإجتماعية من نوع “الفايس بوك” هي التي غذّت الثورات التي عبّرت عنها “الجزيرة”.
وزير خارجية تونس “الإخواني” رفيق عبد السلام موظف سابق في “الجزيرة”
طوال سنوات، دأبت “الجزيرة” على إعطاء حق التعبير لمعارضين إسلاميين، بعضهم كان يعيش في المنفى في قطر، باتوا اليوم من الأسماء البارزة في ليبيا، وفي مصر، وفي تونس، حيث سيشغل منصب وزير الخارجية الجديد “رفيق عبد السلام” الذي كان مديراً للدراسات في “الجزيرة”. وهذا يشير إلى أن الإستثمار في “الإخوان المسلمين” يعطي مردوده. بالمقابل، بعد نجاح “الجزيرة” بالإنكليزية، فإن إمارة قطر باتت الآن تراهن على ثنائية الرياضة- التلفزيون للتألق على المستوى الدولي. والرأي السائد في الدوحة هو “الرياضة أكثر حيادية من الأخبار”. بل إن القناة الجديدة المخصصة للرياضة باللغة الفرنسية لن تحمل إسم “الجزيرة”. ويشرح خبير فرنسي أن “دراسةً أظهرت أن صورة “الجزيرة” ليست حسنة جداً في فرنسا”.
إستعراض نفوذ على المستوى الدولي، بفضل الأحداث الرياضية التي ستنظمها قطر والتي ستقوم “الجزيرة” ببثّها أو بيع حقوق بثّها لآخرين: تلك هي “الورشة” التي تنشط عليها “الجزيرة” من الآن وحتى مباريات بطولة العالم لكرة القدم التي ستستضيفها قطر في العام 2022. وهنالك موعد أول في العام 2015 مع مباريات بطولة العالم لكرة اليد. وربما، مع الألعاب الأولمبية في العام 2020؟ فما زالت “الدوحة” بين العواصم الستّ التي تتنافس لاستضافتها، علماً أن الإختيار سيتمّ في شهر أيار/مايو. كما ينبغي أن يشكّل العام 2022 منصّة لولي العهد، الشيخ “تميم”، الذي يدير الآن قناة “الجزيرة الرياضية” وفريق “باريس-سان جرمان” الفرنسي لكرة القدم. وذلك هو الأسلوب المعتمد في قطر لتحضير البديل قبل الإستغناء عن القدماء، المقرّبين من الأمير الحالي..
فالواقع هو أن الرياضة، والسياسة، والمال، تثير المنافسة بين الأمير الذي يقتني طائرة “أيرباص أ- 340″، ورئيس حكومته الذي يكتفي بطائرة “أ-330” ومثله الشيخة موزة- مع أن طائرة الشيخة استفادت من تصميم خاص أعدّه لها “فيليب ستارك”. وينتقد البعض هذا “المال الذي يشتري كل شيء”. ويضيف أحد المطّلعين على الملف: “من الآن وحتى العام 2022، فإن إستراتيجية قطر واضحة: ففريق “باريس- سان جرمان” كان بمثابة بطاقة دخول لـ”الجزيرة” إلى فرنسا التي ستلعب دور المختَبَر. وإذا ما نجحت هذه التجربة الأولى، فستقوم قطر بشراء نادي رياضي أوروبي آخر، وسيتم إنشاء قنوات رياضية أخرى في أوروبا. وكذلك في أوستراليا، وربما في الولايات المتحدة..
مراسل الفيغارو- جورج مالبرونو