قرأت “التصور الثقافي” الذي أقره الأكاديميون العرب في ما يسمى وثيقة “التصور المستقبلي” للعرب الفلسطينيين في اسرائيل، واصبت بكآبة مريرة بما يكشفه التصور الثقافي من “لا ثقافية” الأكاديميين معدي التصور المستقبلي… وأكاد أقول أميتهم الثقافية بكل ما يتعلق بالأدب العربي الفلسطيني الذي تطور في اسرائيل، ليس فقط جهلهم لأهمية الثقافة ودورها الاجتماعي والفكري والسياسي في كينونة الأقلية العربية الباقية في وطنها، وخلق شروط صمودها، هذا الدور المميز بخصوصيته التي نكاد لا نلمسها بمثل هذا العمق في مجتمعات أخرى، ربما بسبب خصوصية الواقع وحراجته، الذي واجهه العرب الصامدون ضد رياح التهجير والطرد من الوطن، والتحدي الكبير لشق طريقهم في الحياة، في ظروف بدت وقتها شبه مستحيلة، وكان الضياع الانساني، وفقدان الهوية الوطنية والثقافية، هو الأمر المطروح للتنفيذ، لجعل الأقلية العربية مجموعة بشرية مقطوعة الأوصال، بلا جذور، بلا كرامة وطنية.. ” مجرد حطابين وسقاة ماء ” كما أعلن وقتها مستشار رئيس حكومة اسرائيل لوبراني ( في فترة حكم بن غوريون ) عن تصوره لمستقبل العرب الفلسطينيين الباقين في وطنهم . وقام جهاز الحكم العسكري شبه الفاشي، الذي فرض على الجماهير العربية المقطعة الأوصال الباقية في وطنها،” بتنظيف ” جهاز التعليم العربي من عشرات المعلمين الوطنيين وحرمانهم من حق العمل في التعليم أو الحصول على وظائف مناسبة، وفرض جو من الأرهاب على جهاز التعليم، استمرت آثاره المدمرة حتى يومنا هذا في بعض المدارس. ومنع طلابنا من دراسة تاريخ شعبهم وحضارته، ومن التعرف على أدبهم الفلسطيني او العربي المتنور، وفرضت نصوص ادبية فارغة من المضمون الانساني. كان برنامجا للتجهيل التعليمي والثقافي. وفرضت الرقابة على المطبوعات، ولم يسمح بادخال الكتب الأدبية من العالم العربي. كان حصارا ثقافيا ووطنيا مرعبا . لا سادتي الأكاديميين المحترمين، المتمتعين اليوم بما حرمت منه أجيال عديدة من أبناء شعبنا. لا يا سادتي المتعلمين، ليست مجرد مراحل كما حددها تصوركم المستقبلي، متجاهلين ما أفنينا أجمل سنوات عمرنا في مقارعته وملاطمته.. ملاطمة الكف العزلاء للمخرز.. ولم يرعبنا الثمن الذي دفعناه، من أجل خلق الظروف لاحداث تحول سياسي واجتماعي وثقافي، لتنتصب من جديد قامة شعبنا، قوية منيعة، وقد انجزت هذه المهمة، التي وفرت المساحة الدمقراطية لمختلف الاجتهادات والتعددات الفكرية والسياسية والثقافية.
خطط لنا أن نكون حثالات في سوق العبيد الأسرائيلي، واذا كنا اليوم نتحدث عن أدب وثقافة عربية فلسطينية في اسرائيل، وهوية وطنية وأحزاب وتنظيمات، ونضالات برلمانية وشعبية من أجل المساواة، وأكثر من (35) الف أكاديمي، عدا آلاف طلاب الجامعات، ونسبة تعليم جامعي عالية تتجاوز لدى بعض الأوساط الأجتماعية نسبة التعليم في الوسط اليهودي نفسه، فهذا ببساطة لم يحدث في فراغ. الحياة سادتي لا تحافظ على الفراغ. الفراغ يتناقض مع المنطق السليم. وكان هناك رعيل اسطوري في بطولته، فهم خطورة الفراغ على مستقبل شعبنا، فهم خطورة الفجوة الثقافية التي يفرضها زبانية الحكم العسكري على شعبنا المشتت في وطنه، والمصدوم بنكبته.، فانطلق من اللحظات الاولى لملئ الفراغ السياسي والثقافي، وربما لهذا السبب تميزت بداياتنا الثقافية بتزمتها السياسي، ولكنه أحبائي كان تزمتا مطلوبا ومفيدا ويعبئ الفراغ الناشئ في الواقع المشوه الذي واجهناه في العقد الأول من تاريخ دولة اسرائيل، وانجز ما يبدو اليوم مستحيلا وغير قابل للتحقيق ، لولا انها الحقيقة التي لا يمكن لأي عاقل، أو ناكر أن ينفيها.. ولكننا سادتي مجتمع بشري، تنمو فيه أيضا ألأوهام لدى البعض، انهم بداية التاريخ الوطني لشعبنا.
تصوركم يطرح الموضوع الثقافي وكأنه أمر عادي، مثل أي ثقافة أخرى. ومع ذلك يقع بمغالطات عدة، لا تليق بأن تمر عليكم بهذه السهولة. ترى هل قدم التقرير قبل وجبة الغذاء الدسمة في الفندق الفاخر الذي لمكم لكتابة تصوركم ؟ آسف لحدتي، ولكنكم فشلتم تماما في فهم طبيعة تطورنا الثقافي، والعوامل المؤثرة والدافعة في كينونتنا الثقافية.. وما عدا الحديث التقليدي عن واقعنا الثقافي اليوم.. والاقتراح المثير للتأويلات حول انشاء مجلس أعلى للثقافة ( ويبدو أن أحدهم يبحث عن وظيفة ) رؤيتكم الثقافية مصابة بالجهل الكامل، والأمية الشاملة بكل ما يتعلق بثقافتنا والمسيرة المضنية لخلق شروط انطلاقتها من جديد وأثرائها.
ونبدأ من الآخر..
قبل سنوات عديدة، تحمسنا وأردنا أن نثبت أقدام ثقافتنا العربية في اسرائيل، التي بدأت تلفت أنظار العالم العربي بعمقها، وقدرتها على التعامل مع الواقع الانساني ذو الأبعاد الخصوصية لأنساننا ومجتمعنا، فأنشأنا أول اتحاد للكتاب.. سرعان ما دب الخلاف فاذا نحن أمام اتحادين متنافسين بلا عقل وبلا ثقافة.. كان التزعم ضمن الخلاف.. بدأ كل اتحاد يضم الى عضويته كل من كتب حرفين في جريدة – سباق مارتون لتسجيل أكبر قدر من الأسماء – لدرجة أصبح الآتحادين مكتظين بكتاب التمارين الأدبية، وليس بالكتاب الأدباء.. ثم شكل اتحاد اعلى بحكم ضرورة ايجاد مناصب.. ومنذ انشئ الأتحادين تدهورت ثقافتنا، وتسطحت بحكم استيعاب كل من يتوهم أنه أديب لأنه نشر ما يشبه الشعر في صحيفة أو أصدر ديوان شعر هزيل أو نثر بعض الجمل بلا مضمون.. ولم يتوقف تدهور ثقافتنا وأزمتها حتى هذا اليوم. المضحك أن اتحادات الكتاب قائمة حتى يومنا، واليوم يتلخص كل نشاطها انه لها رئيس بلا أعضاء، وتنشر التعازي والتهاني بمناسبة وغير مناسبة، وواضح انه توجد منفعة من وراء بقاء الاتحادات.. ربما دعم نحن لا نعرف مصادره.. ويبدو أن التمسك بالتسمية يفرض بقاء الجيفة بلا دفن .. وفي الفترة الأخيرة صار رئيس أحد الأتحادات نشيطا في برامج الصلح العشائري، وبات بعض الكتاب يعرفونه بلقب : “رئيس اتحاد الكتاب لشؤون الصلح العشائري!!” والغريب انه لم يشارك في اعداد التقرير الثقافي “الهام ” في فندق القدس الفاخر. فهل سيكون المجلس الأعلى للثقافة دافعا لاقامة مجالس عليا ثقافية منافسة أيضا ؟! لماذا لم يطرح التصور الثقافي أي ملاحظة عن القصور الذاتي لأحزابنا ومؤسساتنا الرسمية والأهلية ( بما فيها لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في اسرائيل ) في دعم الثقافة والتجهيزات المناسبة لادارة نشاطات ثقافية حضارية في مدننا وقرانا العربية ؟ لماذا تضطر فرق عربية ( مثلا فرقة سلمى للرقص الشعبي، الكونسرتات التي يقدمها عازف البيانوالعالمي، ابن الناصرة سليم عبود أشقر، ونشاطات جمعية اورفيوس التي تهتم بتطوير وتنمية الثقافة الموسيقية الكلاسيكية – الغربية – ورعاية الفنانين والعازفين الموهوبين العرب وتنظيم نشاطات ثقافية موسيقية متنوعة ) الى تقديم عروضها في قاعات يهودية في كيبوتس المزرعة أو في العفولة أوفي مدينة الناصرة العليا، لعدم وجود قاعات مناسبة في الناصرة خاصة، وفي سائر المدن والقرى العربية ؟!
قلت أن رعيل اسطوري في بطولته قام بدور اساسي في رعاية ثقافتنا وتطويرها.
صحيح اني ذكرت هذا الموضوع بمناسبات مختلفة.. ولكنه موضوع يستحق حقا دراسة أكاديمية مناسبة، ويستحق التكرار لأهميته، ولكونه يشكل الجذور التي انطلقت منها ثقافتنا وصلب عودها، والأهم، شكلت قاعدة فكرية سياسية هامة في صمودنا السياسي، وارتباطنا بتراثنا العربي والفلسطيني وحفاظنا على هويتنا الوطنية وكرامتنا.
هذا الرعيل الأسطوري هو الجيل المؤسس للتيار الماركسي السياسي والثقافي في مجتمعنا، الذي بدأ في فترة الأنتداب البريطاني تحت أسم ” حركة التحرر الوطني الفلسطيني “، ثم اتحد مع الحزب الشيوعي الأسرائيلي، وكان قادته العرب أصحاب رؤية نهضوية تنويرية، قادتهم الى الفكر الماركسي ثم الى الشيوعية في مرحلة صعودها وانتشارها وتحولها الى حلم بشري بالعدالة الأجتماعية والتحرر والأنعتاق من الأستغلال. الماركسية عززت توجههم التنويري النهضوي، لذا ليس بالصدفة انهم كانوا على وعي كبير بأهمية تطوير ثقافة عربية فلسطينية في اسرائيل، وضرورة التواصل الثقافي بين الأقلية العربية والعالم العربي، وعدم الأنقطاع عن التراث والأنجازات الثقافية الحديثة، كشرط لاستعادة التوازن الاجتماعي والسياسي، والأنطلاق في معركة التحدي المصيرية بقوة ووعي، فشهد مجتمعنا في سنواته الأولى بعد اقامة دولة اسرائيل انطلاق مجلة “الجديد” الثقافية الفكرية التنويرية، وتحولت صحيفة ” الأتحاد ” ( انشأت كصحيفة نقابية لمؤتمر العمال العرب، ثم تحولت الى لسان حال الحزب الشيوعي باللغة العربية ) الى السلاح الأعلامي والتثقيفي السياسي للجماهير العربية، ورافقت هذه العملية الأعلامية مهرجانات شعرية سياسية، مدت الجماهير العربية بالحماس الثوري، والتعبئة للنضال، الى جانب الدورات المتتالية السياسية والنظرية والثقافية لكل الأجيال ، وخاصة للشباب، واقول بوضوح أنه بدون هذه النهضة الثقافية الفكرية السياسية، كنا تحولنا فعلا الى ” حطابين وسقاة ماء ” للمجتمع الأسرائيلي. كانت الجديد والأتحاد مصدران وحيدان تقريبا للتعرف على الأبداعات الأدبية العربية البارزة، ثم أقيمت دار الكتب المختارة للنشر، التي نشرت عيون الأبداعات الأدبية العربية.. وكسرت الحصار الثقافي، وانجزت في نفس الفترة تقريبا احدى الأهداف النضالية الهامة، بالأنتصار في معركة الغاء الحكم العسكري. وهذا ما كان من الممكن تحقيقه لو لم تكسر الجماهير العربية ارهاب الحكم العسكري وتحوله الى مهزلة سياسية وعار على الدمقراطية التي تبجحت فيها السلطة الأسرائيلية…
للأسف تهاوى هذا البنيان السياسي الفكري الثقافي بعد غياب فرسانه، وتحول الى مهزلة.
ان قصور التصور الثقافي في وثيقة التصور المستقبلي ناتج عن قصور رؤية طريق تشكل ثقافتنا وانطلاقتها.
لسنا بحاجة الى مجالس ثقافية عليا.. نحن بحاجة الى التزام القيادات العربية والمؤسسات الرسمية والأهلية بأجندتها الثقافية المعلنة. ان الدمج بين الثقافي والسياسي يشكل معادلة صحيحة في واقعنا الثقافي، قد لا تكون صحيحة في واقع آخر. القيادات شبه الأمية ثقافيا، لم تجلب لنا الا الوهن والضحالة الثقافية، وبالتالي الوهن والضحالة السياسية والأجتماعية، والتفسخ والشرذمة الطائفية والعائلية المقيتة والبالغة الخطورة على ما انجزناه.
للأسف بعض الجمعيات الأهلية وأصحابها من السياسيين، يجمعون مبالغ طائلة بحجة الثقافة والفنون.. لا أعرف الى أين تذهب… من يستفيد منها؟ ولكنها بالتأكيد لا تذهب للفعل الثقافي. ويا ليت هذه الأموال تذهب الى هيئة مستقلة تتشكل من مجموعة من المثقفين ورجال الفكر العرب ( من العالم العربي – ربما عن طريق الجامعة العربية ) وأن تتعامل مباشرة مع الفرق الفنية ومع الأدباء والفنانين.. واطلاقا ليس مع ممثلي الأحزاب.
شعبنا يحتاج حقا الى دعم ثقافي وفني كشرط من شروط تطورة وتشبثه بتراب وطنه !!
mostkbel@netvision.net.il
نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي – الناصرة