حتى لا يعود العالم إلى حقبة الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية، لا بد من إنهاء نزاعات كثيرة بطريقة عادلة ومنصفة، وهزيمة ما يسمى بداعش ووقف تمدده الجغرافي والفكري.
لا يزال للبعد الإنساني بعض التأثير في عالم اليوم والدليل اختيار مجلة تايم الأميركية للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل شخصية العام 2015، خاصة أن أبا بكر البغدادي زعيم ما يعرف بـ”تنظيم الدولة الإسلامية” جاء في المركز الثاني، بينما حل المرشح المحتمل للانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة المتطرف دونالد ترامب ثالثا.
كان من المنطقي أن تحظى الإمبراطورة المستشارة بهذا التكريم بسبب موقعها القيادي الأخلاقي إبان أزمة اللاجئين في أوروبا. لكن كان من المفاجئ أن يأتي أرباب صدام الحضارات على رأس اللائحة، والمثير للتقزز أن يخطف الخليفة المزعوم الأضواء زيادة في تهشيم صورة الإسلام وعوالمه، علما أن ضحايا الإرهاب والاستبداد وضحايا موت الإنسانية في قلوب الناس من السوريين المعذبين إلى الفقراء النيجيريين لا صوت لهم ولا صورة في عالم تحكمه موازين القوة وتغيب عنه أحيانا بديهيات المناقبية الخلقية.
في عشرينات القرن الماضي قال الشاعر الإنكليزي روديارد كبلنغ “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا”. وكبلنغ من أصول هندية نال جائزة نوبل للآداب في العام 1907. ولا شك أن مقولته ارتبطت بالتاريخ الاستعماري حينها. وحديثا، بعد نهاية الحرب الباردة أبرز صموئيل هنتنغتون نظريته عن صدام الحضارات وعن أولوية الأبعاد الثقافية في نزاعات زمن العولمة، في نقض لتفاؤل تلميذه فرنسيس فوكاياما عن نهاية التاريخ.
واليوم في الألفية الثالثة وفي منتصف العقد الثاني من قرنها الأول، نستنتج بذهول العودة إلى الوراء مع صعود الأصوليات من كل حدب وصوب في زمن الهويات القاتلة. يتفاقم البعد الديني في الصراعات من القدس إلى ميانمار، مع احتدام النزاع السني-الشيعي وترافق ذلك مع ما يسمى الجهاد العالمي بتلويناته المختلفة وانتشار الإرهاب الذي عززته حروب أفغانستان والعراق في بداية القرن. تواكب كل ذلك حروب تنهش العالم العربي وتحطم دوله وإنسانه، بعد فشل داخلي وإفشال خارجي لحلم الشباب العربي بالتغيير وإحالته نحو اليأس أو الانتظار أو إلى مثالب التطرف الراديكالي ودائرته المغلقة. على الضفة الأخرى من المتوسط والأطلسي وبعيدا في أستراليا تأتي أصوات نشاز تخدم البغدادي وأمثاله، عبر تعميم الخلط بين الإسلام والإرهاب ونشر الإسلاموفوبيا.
من بين “دواعش” الغرب برز الملياردير الأميركي دونالد ترامب الذي يتنافس على مركز المرشح الرئاسي للحزب الجمهوري من خلال تصريحات صادمة حول عدم السماح للمسلمين بدخول الولايات المتحدة “لحين اتضاح الوضع”. بالطبع يدرج البعض ذلك ضمن موسم المزايدة الانتخابية وبسوابق لترامب مثل دعوته إلى “ترحيل المهاجرين المكسيكيين غير الشرعيين بشكل جماعي”، واتهامه المكسيك بإرسال “المغتصبين ومروجي المخدرات” عبر الحدود، وأتت تصريحاته المعادية للإسلام بعد العمل الإرهابي في سان برناردينو (في عام 2015 وقع 355 هجوما ناريا في 220 مدينة و47 ولاية أدت لسقوط 462 قتيلا و1314 جريحا، و60 بالمئة من الهجمات قام بها أشخاص يحملون رخصة اقتناء أسلحة).
ترامب المثير للجدل احتفظ بشعبية ثابتة في بلاد يسودها جنون العظمة (حسب تعبير نعوم تشومسكي) أو يسكنها هاجس الخوف من مخاطر تغيير الهوية حيث أن أكثر من ثلاثين ولاية فيها اقتراحات لحظر الشريعة الإسلامية، بينما تتبارى مراكز أبحاث ووسائل إعلام مرئية وعنكبوتية في التحذير من خطر الإسلام. هذا التشخيص الأحادي الجانب للمسؤوليات عن العنف وتفاقم البعد الديني في الإرهاب، لا يتعمق أو يتطرق إلى آثار الحروب الأميركية في اليابان وفيتنام وأفغانستان والعراق و”الحرب الكبرى ضد الإرهاب” في الوصول إلى هذا الدرك من الاضطراب والتطرف ورفض الآخر.
إذا كان خطاب ترامب قد تعرض للإدانة في أكثر من مكان، إلا أنه غير معزول وهناك “داعشي” أسترالي شهير هو توني أبوت، رئيس الوزراء السابق، الذي يركز على أن “الحضارات ليست متساوية” ويدعو الغرب إلى إعلان “تفوقه على الإسلام”، مما حدا برئيس الوزراء الحالي مالكولم ترنبول إلى التصريح “إن من حق أبوت إبداء رأيه، ولكن الأغلبية الساحقة من المسلمين يتسمون بالسلمية”، وأضاف “على أستراليا تجنب تحقيق أهداف العدو بتحميل كل المسلمين مسؤولية الجرائم التي يقترفها نفر قليل”. وقال إن المسلمين وحدهم هم الذين بإمكانهم التصدي لدعاة التطرف العنفي، وإن “على كل من يريد أن يرى عالما آمنا أن يمد يده للمسلمين المسالمين ويشجعهم على استعادة دينهم من المتطرفين”.
تتقاطع نظرة ترنبول مع كلام للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك عن عدم وجود صدام حضارات، بل صدام ناتج عن جهل الثقافات والحضارات لبعضها. بيد أن خطاب شيراك لم يعد يسري في فرنسا نفسها، إذ أتى صعود الجبهة الوطنية في الانتخابات الإقليمية الأخيرة ليزيد من مخاطر وصول أحزاب متشددة إلى مواقع السلطة في أوروبا، مع ما يعنيه ذلك من تغذية متبادلة للتطرف.
حتى لا يعود العالم إلى حقبة الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية، لا بد من إنهاء نزاعات كثيرة بطريقة عادلة ومنصفة، وبالطبع هزيمة ما يسمى بداعش ووقف تمدده الجغرافي والفكري. لكن صعود دواعش الغرب أو نهج بوتين العسكري لا يسهم في الوصول إلى نتائج إيجابية. إنها بادئ ذي بدء معركة تحول مطلوب داخل البيئة الإسلامية سياسيا وتنمويا وفكريا، لكنها أيضا بالنسبة إلى النخب العربية لحظة وقفة مع الذات آن أوانها لرفض القتل والإقصاء ورفض الآخر باسم الدين، وضرورة بناء مشروع نهضوي متصالح مع العصر والواقع.
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
khattarwahid@yahoo.fr