ديفيد ماكوفسكي ودينيس روس
أعلنت إدارة الرئيس دونالد ترامب أن الرئيس الأمريكي سيدلي بتصريح حول القدس في السادس من كانون الأول/ديسمبر، مع إمكانية أن يتضمن خطابه نوعاً من التأكيد على مكانة المدينة كعاصمة لإسرائيل. والجدير بالذكر في هذا الإطار هو أنه في ما يخص عملية بناء السلام بين إسرائيل، والفلسطينيين، والدول العربية، لا توجد مسألة أكثر حساسية من قضية القدس. ولذلك، إذا أراد الرئيس الأمريكي الإبقاء على إمكانية تحقيق “اتفاق نهائي”، فعليه اختيار كلماته في هذا الشأن بعناية شديدة.
أولاً، يجب أن يوضح أن جلّ ما يفعله هو ببساطة الاعتراف بواقعٍ يتقبّله المجتمع الدولي بغالبيته، ألا وهو أن قسماً من المدينة على الأقل سيبقى دائماً عاصمةً لإسرائيل، أيا كانت حدود هذه المدينة في المستقبل ووضعها النهائي. وتجدر الاشارة إلى أن واشنطن وحكومات اخرى تجري مباحثات في القدس مع الحكومات الإسرائيلية منذ أن تم تسمية المدينة العاصمة الجديدة للبلاد بعد فترة وجيزة من حرب عام 1948 وتقسيم المدينة. فقد ألقى الرؤساء الأمريكيون – الديمقراطيون والجمهوريون على السواء – خطاباتهم في مبنى البرلمان الواقع في القدس، واعتاد وزراء الخارجية الأمريكية عقد لقاءاتهم مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في مكتبه الكائن هناك أيضاً، شأنهم شأن نظرائهم الدوليين.
وفي حرب عام 1967، استحوذت إسرائيل على النصف الشرقي من المدينة ووسعت بشكل كبير حدودها البلدية. وبدءاً من اتفاقية “كامب ديفيد” في أيلول/سبتمبر 1978، وافقت الحكومة الإسرائيلية على التفاوض بشأن المكانة النهائية لمدينة القدس في إطار المفاوضات حول الوضع النهائي. بيد أن كل إدارة أمريكية تعاقبت على السلطة منذ ذلك الحين أعلنت أنها لن تتخذ أي موقف بشأن الوضع النهائي للمدينة إلى أن يتفاوض الإسرائيليون والفلسطينيون حول القضية بأنفسهم. وحين أصدر الكونغرس الأمريكي في عام 1995 قانوناً يقضي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، فاوضت إدارة كليتنون على إدراج بندٍ في القانون يخوّل الإعفاء من تطبيقه لدواعٍ خاصة بالأمن القومي الأمريكي. ولم تهدف الإدارة الأمريكية من خلال هذه الخطوة الحفاظ على سياسة قديمة وطويلة الأمد لدى السلطة التنفيذية فحسب، بل إلى السماح للرئيس الأمريكي أيضاً بتحديد ما إذا كان من شأن مثل هذه الخطوة أن يخدم مصلحة الولايات المتحدة المتمثلة بتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة. وقد طلب الكونغرس من كافة الإدارات الأمريكية اللاحقة الالتزام بهذا البند كل ستة أشهر، وأصبحت هذه المدة تجدَّد في كل مرة حيث كان كل رئيس – بما في ذلك ترامب – يقرر أن إسقاط هذا الإعفاء سيفتح المجال أمام أعداء السلام باستغلال اعتراف الولايات المتحدة الرسمي بالقدس، والتحريض على العنف بسبب هذه المسألة المثيرة للعواطف، وتعطيل جهود السلام الأمريكية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل تغيّرت الأمور بشكلٍ يستتبع تعديل هذه السياسة؟ نعم، ثمة أمورٌ تغيرت، وأولها أنه لم تُجر أي محادثات جدية للسلام منذ عامَي 2013-2014. ثانياً، أخذت منظمة “اليونسكو” والجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد قرارات مسيّسة إلى حد كبير تتجاهل الروابط اليهودية التاريخية بهذه المدينة، الأمر الذي يشكل تحدياً فعلياً للجوهر الأساسي للعقيدة اليهودية. على سبيل المثال، يدعو قرار الجمعية العامة الصادر في 30 تشرين الثاني/نوفمبر الحكومات إلى احترام “الوضع التاريخي القائم في الأماكن المقدسة، بمدينة القدس، بما في ذلك الحرم القدسي الشريف، على صعيد القول والفعل”. ولا شك في أن الحرم الشريف الذي يضم المسجد الأقصى، هو مكانٌ مقدس لدى المسلمين الذين يؤمنون بأن النبي محمد صعد منه إلى الجنة، ولذلك لا يعتبر من الخطأ تسميته في القرارات. لكن هذا المكان يحتضن أيضاً أحد أكثر الأماكن قدسيةً في الديانة اليهودية، وهو جبل الهيكل، غير أن القرار لم يأتِ على ذكره بتاتاً – وهذا حذفٌ له دلالاته.
ومن غير المفاجئ أن تكون الخطوات الأخيرة التي اتخذتها الأمم المتحدة قد تسببت برد فعل عكسي عنيف. فقد وعد الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية باتخاذ موقف بشأن الرابط اليهودي بالقدس، من بين وعود أخرى. ومثله مثل عدد كبير من الرؤساء الذين سبقوه، أعلن أيضاً أنه سينقل السفارة الأمريكية إلى القدس. ومع ذلك، فقد وقّع على الإعفاء التشريعي في شهر حزيران/يونيو، ووفقاً لتقارير وسائل الإعلام عن المحادثات مع المسؤولين الأمريكيين، يبدو أنه سيقوم بذلك مرة أخرى. وعلى الأرجح، لا يزال يَعتقد أن القادة العرب قد يسيئون تفسير الخطوة المتعلقة بالسفارة وربما يقوّضون جهود السلام الحالية التي تقوم بها إدارته.
وقد يكون الرئيس الأمريكي مستعداً لإعلان القدس عاصمةً لإسرائيل من أجل التخفيف من حدة الضربة السياسية التي يشكلها إصدار إعفاء آخر، ومن أجل إثبات اختلافه عن الرؤساء الذين سبقوه. ولكن السبب نفسه في حساسية مسألة نقل السفارة هو أن هذه الخطوة تحسم الموقف الأمريكي بشأن الوضع النهائي للمدينة. وإذا تَرك إعلان السادس من كانون الأول/ديسمبر الانطباع نفسه، فبذلك قد يضعف الرئيس آماله بالتوصل إلى اتفاقية سلام بدلاً من الحفاظ على هذه الآمال.
ولتجنب لهذه الحصيلة، يتعين عليه التوضيح بأن إعلانه لا يتعلق بتحديد الوضع النهائي للقدس أو حدودها، وأن هذه القرارات يجب أن تتم عن طريق المفاوضات المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب (بما في ذلك الأردن، الذي تم الاعتراف بدوره في الأماكن المقدسة كجزء من معاهدة السلام مع إسرائيل). وبعبارة أخرى، ينبغي على الرئيس الأمريكي أن يعترف ببساطة بأن القدس ستظل دائماً عاصمة إسرائيل، حتى وإن كانت محادثات السلام هي السبيل الوحيد لمعالجة المطالب بشأن حدود هذه المدينة [المقدسة].
ومن الضروري التمييز وتبيان الفارق بين الاثنين. فبسبب المنظار العاطفي الذي تتطلّع منه جميع الأطراف المعنية إلى القدس، من الممكن أن يسئ المتطرفين تفسير أي قرار يصدر بهذا الشأن فيتسبب هذا الأخير باندلاع أعمال عنف. فعلى سبيل المثال، حين فتحت إسرائيل نفقاً في “المدينة القديمة” عام 1996، ادّعى ياسر عرفات أن هذا النفق يزعزع أساسات المسجد الحرام. ومع أن هذا الادعاء كان عارياً كلياً عن الصحة، إلّا أنّه تسبب باندلاع أعمال شغب استمرت أسبوعاً وأسفرت عن مقتل 70 فلسطينياً وسبعة عشر جندياً إسرائيلياً. وفي الصيف الماضي، اندلعت أعمال شغب اخرى بعد أن قامت أسرائيل بتركيب كاشفات معادن عند مدخل الحرم الشريف/جبل الهيكل. واتخذت السلطات الإسرائيلية هذه الخطوة المنطقية على ما يبدو رداً على مقتل اثنين من رجال شرطة الحدود الإسرائيليين على يد إرهابيين قاموا بتهريب الأسلحة إلى الموقع، وتم تركيب أجهزة كاشفة مماثلة في أماكن مقدسة إسلامية رئيسية أخرى، بما في ذلك مكة المكرمة. غير أن العديد من الفلسطينيين اتهموا إسرائيل بتغيير الوضع القائم في الحرم الشريف، وقد أدى العنف الناجم عن ذلك إلى دفع السلطات الإسرائيلية إلى إزالة الإجراءات الأمنية الجديدة.
وباختصار، لا يبدو أن أي مسألة تثير عدائية القادة العرب بقدر قضية القدس. وبما أن الإدارة الأمريكية بحاجة إلى أن يؤدي هؤلاء القادة دوراً في أي مساعٍ متجددة لتحقيق السلام، يجدر بها تجنّب أي خطوات تبدو من خلالها واشنطن وكأنها تتجنب المفاوضات وتتبنى الموقف الإسرائيلي بشأن المدينة. ومن الواضح أن التحدي المطروح اليوم أمام الرئيس الأمريكي هو الاعتراف بالواقع الفعلي، ولكن الامتناع عن اتخاذ أي موقف بشأن الوضع النهائي.
ديفيد ماكوفسكي هو زميل “زيغلر” المميز في معهد واشنطن، ومحرر موقع الخريطة التفاعلية الجديدة للمعهد بعنوان المستوطنات والحلول. دينيس روس هو مستشار وزميل “ويليام ديفيدسون” المتميز في المعهد، ولعب دوراً رائداً في تشكيل عملية السلام خلال إدارات أمريكية متعاقبة.