إذا تشاجر رجلان واقتربت زوجة أحدهما لتنقذ زوجها من يد ضاربه، فمدّت يدها وامسكت عورته فاقطعوا يدها ولا تشفقوا عليها
[سفر التثنية 25: 11ـ12]
ما ورد أعلاه هو أحد تعليمات الرب(يهوا) لنبيّه موسى، وقد اخترته، لما يختزن من رمزية، تكاد تلخص تاريخ الذكورية. فمنذ قُتل إنسان الصيد (هابيل) على يد إنسان الفلاحة (قابيل) بدأ التاريخ الرمزي للنزاع البشري. الغريب أن التوراة (ومعناها بالعربية: المقرا) لم تخبرنا عن فجيعة السيدة حواء بولدها القتيل، ولم تسمعنا شيئا عن ندبها، ولا عن حزن آدم على فلذة كبده. لهذا انبرى الإخباريون العرب لملأ هذه الفجوة، بما تفتقت عبقريتهم من قدرة على دحرجة الأقاصيص، وتلقيمها فم الأموات، حتى أن بعضهم نقل حديثا عن علي ابن أبي طالب (أورده الطبري) جعل آدم يبكي هابيلا ويرثيه قائلا:
:
تغيّرت البلادُ ومن عليها
فوجه الأرض مُغبرَ قبيح
تغيّر كل ذي طعم ولون
وقلَ بشاشة الوجه المليح
وبهذا نقدم إثباتا دامغا بأن آدم لم يكن أبا البشر وحسب، بل كان شاعرا عربيا لوذعيا، يقرض شعره على أوزان البحرالوافر. (ومن لايعجبه هذا الكلام، فلينطح سور الصين العظيم)!!
فالرب (يهوا) الذي سال لعابه لرائحة القرابين وإنبسطت أساريره لكبش هابيل، (بينما امتعض من هدايا قابيل النباتية) هو نفسه الإله البابلي الذي كان يتنسم رائحة الشواء أو إيل الكنعاني وإيلوهيم (صيغة الجمع). إنه (إله) باللغة الآشورية، الذي أضاف له العرب أل التعريف ليصبح ( الـ”إله” وتخفيفا: الله) إنه العليّ أو عليون: إله الجبال (في حوريب) وشداي (الشديد) وهوالإله اليمني (رحمن). وإله الآباء: إبراهيم ويضحك (إسحق) وشمعيل، وعيسو، وتوأمه الذي أمسك عقبه (يعقُب) ويوسف وموسى وداوود. إنه الصورة (الانتولوجية) للذكر، الذي أمر بقطع يد الأنثى بلا شفقة، إذا ما سوّلت لها نفسها العبث بآلة ذكورته أو التعدي على حرمة (بيضتيه) المقدستين.. إنه هو هو (معنى يهوا) إله البترودولار، الذكر الذين يتبختر كالديك في شارع (إدجوير رود) اللندني، متبوعا بنساء ملفعات بالسواد، وخادمات سيرلنكيات، وأطفال كأكياس البطاطا، يلهثون من فرط السمنة.. إنه “هو هو”، تبارك إسمه إلى أبد الدهور أمين..
*
البحث عن القبور
هرعت إلى التلفون، عرفته من الكلمة الأولى؟ سألني عن أحوالي( زفت والحمدلله). هو أحد معارفي، إختار العزلة هربا من ضجيج المدن واستوطن بيتا ريفيا مجاورا لإحدى الغابات المتاخمة لتشيكيا. كالعادة، اتصل ليسألني عن شؤون العرب وطقوسهم، فما عرفه من روايات كارل ماي لم يُشبع نهمه للمعرفة. ومن المجدي أن أخبر بأن الرجل لا يملك في منزله تلفزيون أو إنترنت، فهو يكتفي بإلتقاط الأخبار والموسيقي من راديو ترانزيستور.. لكن مكتبته تغصّ بآلاف الكتب والمجلدات وهذا بيت القصيد. قال بتمهل:
قرأت عن كاتب سوري، استطاع أن يحدد جغرافيا جديدة للتوراة. هل تعرفه؟
أجبت: لعلك تقصد كمال الصليبي صاحب كتاب “التوراة جاءت من جزيرة العرب”؟ قبل سنوات، أضاف كتابا آخر حول نفس الموضوع إسمه “خفايا التوراة”. وعلى ذكر خفايا، فقد أخفيّت عن محدثي أن الصليبي لبناني وليس سوريا “حسب علمي” وهذا تعلمته من النمساويين الذين يفرحون عندما يُنسب أدولف هتلر إلى ألمانيا وبيتهوفن للنمسا (مع أن العكس صحيح) ..
قال: ما رأيك بما ذهب إليه الصليبي، ألا ترى أن عسير وتهامة (منطقة جنوب غرب جزيرة العرب) هي المكان المناسب لعصر الآباء؟
قلت له: بما أن الأركيولوجيين الإسرائيليين وغيرهم فشلوا لحد الآن، في إيجاد قطعة فخار واحدة تبرهن على عصر الآباء (عصر إفتراضي امتد من إبراهيم بحدود 2000ق.م حتى نهاية المملكة الموحدة لداوود وسليمان حوالي 950ق.م)، فإن القضية ستظل أشبه بأسلحة الدمار الشامل العراقية. وبما أنهم نبشوا أرض فلسطين إبتداء من حفريات القدس، التي قادها الضابط شارلز وارن من فرقة الإستطلاع البريطانية عام 1867 م ولحد اليوم، ولم يجدوا شيئا، فإن الآباء سيظلون أشباحا وهمية .. عابرة بين الكلمات(تعبير للراحل محمود درويش) .
قاطعني قائلا: أنت ما رأيك ؟ هل ترى أن “عسير” مناسبة من حيث المبدأ؟ أجبته مازحا: لا أبدا. ربما كانت أوغندا أو الأرجنتين، المكان الأنسب!
وبعيدا عن المزاح، أود لفت الإنتباه إلى أن هذا النص هو تنويه لعمل مستقبلي، يروم تقديم عرض وترجمة لبعض البحوث، التوراتية، فيما يسمى إصطلاحا “أرض التوراة” والتعرض لمنهجها وإشكالياتها كما وردت في كتابين ذاع صيتهما لإسرائيل فنكلشتاين (الرئيس السابق لمعهد الأركيولوجيا في جامعة تل أبيب وهو غير نورمان فنكلشتاين صاحب: صناعة الهولوكوست، لكنهما على ما يبدو من نفس العشيرة) ونيل سيلبرمان. عنوان الكتاب الأول: لا أبواق أمام أريحا 1998، والثاني: داوود وسليمان 2006 (حسب الترجمة الألمانية) ثم التعرض لمحتوى أطروحة الأستاذ الصليبي وإلى أبحاث تاريخية لسانية حول الديمغرافيا المقدسة، الممتدة من فلسطين إلى الحجاز.
ولغرض الإستفزاز والتحفيز، سأبدأ من حيث إنتهى فنكلشتاين وسليبرمان في كتابهما “داوود وسليمان”:
بين القرنين السادس عشر والثامن قبل الميلاد لا يوجد في القدس إثباتات، تدل على وجود مدينة مهمة أو عاصمة لمملكة. فمن وجهة نظر أركيولوجية كانت أورشليم (المقصود ضمن هذه الفترة الزمنية) عبارة عن قرية صغيرة وفقيرة نسبيا، وغير محصنة، في منطقة جبلية، مساحتها بين هكتار أو هكتارين، وقد عاش سكانها على الجزء الشمالي من التل، ليس بعيدا من نبع جيهون. (إنتهى الإقتباس)
هكذا كانت أورشليم في زمن المملكة العظيمة لداوود وسليمان، حيث الهيكل الإسطوري الذي فاق كل وصف!!
*
يحدثنا التاريخ الكنسي، بأن إضطهاد المسيحية بدأ في عهد الإمبراطور نيرون، وتم قتل القديس مرقس في الإسكندرية عام 68م ، وتمزيقه إربا، ووصل ذروة البطش في عهد دقلديانوس(284م ـ305م). لكن الرواية تخبرنا أن أهل الإسكندرية، عظموا هذا القيصر، وخلدوه بنصب رخامي هائل (لا يزال قائما بإسم عمود السواري)، تعبيرا عن فرحتهم بمنجزاته الدموية وخلاصهم من المسيحيين، الذين ألحقوا إهانة بآلهتهم.
وبعد أن أصدر قسطنطين الكبير عام 323م مرسوما بمنع الوثنية، واعتبار المسيحية دين الدولة، دارت عجلة التاريخ وبدأ المسيحيون بإضطهاد الوثنيين، وقاد البطريرك ثاوفيلوس عام 389م بنفسه حملة تدمير تمثال سيرابس(في أبي قير) وقامت الغوغاء بتدمير جزء من المعبد الوثني بمدينة الإسكندرية وكذلك جزء من المكتبة الشهيرة، التي أنشأها البطالمة. وعام 415م، زحفت فرق الرهبان وطاردت آخر أتباع المدرسة الأفلاطونية الحديثة، وألقت القبض على الفيلسوفة هباتيا التي وُصفت بالمعلمة الوقورة المهذبة، وتم رجمها بالحجارة، حتى الموت. ثم تخبرنا القصة بأن المكتبة أحرقت ثانية قبيل الغزو العربي، إثر نزاع بين أتباع الكنيسة القبطية المرقسية، والكنيسة الملكانية (البيزنطية)؟
وتعود القصة مرة ثالثة لتتحدث عن حريق المكتبة وفنائها، على يد السيد عمر بن العاص بعد أن استفتى الخليفة بشأنها، فأجابه بمقولة مفادها: إن كان فيها ما ينفع فلنا كتاب الله، وإن كان فيها ما يضر فالنار كفيلة بها!
صحيح أن كل تلك الروايات تعود إلى أزمنة أسطورية، ولايمكن فهمها إلا على المستوى الرمزي، باعتبارها صدى لذاكرة مشوشة بعيدة، لكن رمزية رجم المعلمة الوقورة هباتيا، بأيدي، فرق الرهبان، أو حرق المكتبة، تشير إلى نهاية الإسكندرية كعاصمة لعصر الأنتيكا الذهبي، وبداية لعصر يُرجم فيه العقل، وتحرق فيه الكتب..
naderkraitt@yahoo.de
* كاتب سوري
تعليقان
دفاعا عن الوثنية؟
ليس دفاعا عن الوثنية
اورد مقطع من كتاب طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد مبحث الاستبداد و الدين لعبد الرحمن الكواكبي.
و الحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة و الدين يمشيان متكاتفين , و يعتبرون أن إصلاح الدين هو أسهل و أقوى و أقرب طريق للإصلاح السياسي .
و ربما كان أول من سلك هذا المسلك أي أستخدم الدين في الإصلاح السياسي هم حكماء اليونان , حيث تحيلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الأشتراك في السياسة بإحياء عقيدة الاشتراك في الألوهية , أخذوها عن الآشوريين و مزجوها بأساطير بصورة تخصيص العدالة بإله و الحرب بإله و الأمطار بإله إلى غير ذلك من التوزيع و جعلوا لإله الآلهة حق النظارة عليهم , و حق الترجيح عند وقوع الاختلاف بينهم . ثم بعد تمكن هذه العقيدة في الأذهان لما ألبست من جلال المظاهر و سحر البيان سهل على أولئك الحكماء دفعهم الناس مطالبة حكامهم الجبابرة بالنزول إلي مقام الانفراد , و بأن تكون إرادة الأرض كإرادة السماء فأنصاع ملوكهم مكرهين . و هذه هي الوسيلة العظمى التي مكنت اليونان من إقامة جمهوريات أثينا و إسبارطة .و كذلك فعل الرومان , و هذا الأصل لم يزل المثال القديم لأصول توزيع الإدارات في الحكومات الملكية و الجمهوريات على أنواعها إلى هذا العهد .
ثم يذكر كيف أن : عقيدة التشريك عدا كونها باطلة في ذاتها … فإنها انتشرت و عمت و جندت جيشا عرمرما يخدم المستبدين كنمرود إبراهيم و فرعون موسى و البرهمي و البادري و الصوفي .. و قد جاءت التوراة لترفع عقيدة التشريك مستبدلة مثلا أسماء الآلهة المتعددة بالملائكة و لكن لم يرض ملوك ال كوهين بالتوحيد فأفسدوه بالاستبداد ثم جاء الإنجيل بسلسبيل الدعة و الحلم فصادف أفئدة محروقة بنار القساوة و الاستبداد و كان أيضا مؤيدا لناموس التوحيد و لكن لم يقوى دعاته الأولون على تفهيم تلك الأقوام المنحطة( المنهكة من الاستبداد ) , الذين بادروا لقبول النصرانية قبل الأمم المترقية . . ثم لما انتشرت النصرانية و دخلها أقوام مختلفون , تلبست ثوبا غير ثوبها , كما هو شأن الأديان التي سبقتها فامتزجت بأزياء و شعائر الإسرائيليين و أشياء من الأساطير و غيرها و أشياء من مظاهر الملوك و نحوها , و هكذا صارت تعظم رجال الكهنوت إلى درجة اعتقاد النيابة عن الله و العصمة عن الخطأ و قوة التشريع, مما رفضه البروتستانت أي الراجعون في الأحكام لأصل الإنجيل ..
ثم جاء الإسلام مهذبا لليهودية و النصرانية مؤسسا على الحكمة و العزم هادما للشرك , و محكما لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الأرستقراطية و الديموقراطية فأسس التوحيد و نزع كل سلطة دينية أو تغليبية تتحكم بالنفوس , و أوجد مدينة فطرية سامية .
ثم نرى الكواكبي مترحما على ذاك ( الطراز السامي من الرياسة و هو الطراز النبوي المحمدي لم يخلفه فيه حقا غير آبي بكر ثم عمر ثم اخذ بالتناقص , وصارت الأمة تطلبه و تبكيه من عهد عثمان إلي الآن , و سيدوم بكائها إلى يوم الدين إذا لم تنتبه بتعويضه بطراز سياسي شوري , ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب التي لربما يصح أن نقول , إنها قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاد منه المسلمون .
دفاعا عن الوثنية؟ عزازيل
صدرت في مصر ( رواية ) ممتعةللكاتب يوسف زيدان قصة راهب مصري خرج من أخميم في صعيد مصر قاصدا القدس ومر بالأسكندرية وشهد مقتل هيباتيا والكثير مما كان يدور في هذه الفترة العصيبة. الكاتب يقول أنها ترجمة لمخطوط أكتشف في منتصف التسعينيات، ولكن في أكثر من ندوة أذاع انها رواية من خياله، لازلت أعتقد أنها ترجمة لمخطوط حقيقي. هل من تعليق
عزازيل يوسف زيدان الناشر دار الشروق القاهرة