منذ أن كنت جنيناً في بطن أمي وأنا أسمع الناس يقولون لها، لا تقفزي، فالقفزة ستهّبط بالجنين إلى أسفل البطن، وبذا ستولدين بنتاً، وتعرفين مدى (البوار) الذي يلحق المرء عندما تخلق له بنت.. وعندما وعيت الدنيا كانت أمي لا تكف عن نصحي بأن أمشي راسخة، ورأسي بين أقدامي أسي أسي، وتحذرني من القفز، بل وجندت من جيراني الذكور عيونا تترصدني إذا ما لعبت لعبة (نط الحبل) أو أي لعبة ترفع راسي من بين أقدامي، لكي تحظى أمي وعائلتي بدعوة (رحمة الله) ويتجنبوا (لعنة الله). بذا تعمق في داخلي الهلع من أية قفزة يمكن أن تؤدي إلى فقدان شرفي، وشرف العائلة والتاريخ المربوط بقفزة!!
وبرغم موت أمي، إلا أن عيون حراس، وحماة اللاقفز، ستظل منغرسة تلاحقني إلى قبري، خوفا – لا سمح الله – من أن تتحرك جثتي، فتعند، وتقوم بقفزة خارج القبر، فأواصل تمريغ شرف عائلتي في الحضيض حية وميتة.
في حياتنا اليومية، كثير ما نسمع هذه الجملة التحذيرية – طبعاً – يسبقها تقطيب الجبين، و(عصوّرة) الرأس، ثم دقتين قويتين على الطاولة: (لا تقفزوا على الواقع)، (لنكن واقعيين، ونبطل القفز على ثوابت الأمة). فرئيس جمهوريتنا لا يخلو خطابه من هذه اللازمة، ويصور أي مطلب مهما صغر بأنه قفز على الواقع، إلى المعارضة التي قفزّتنا على الواقع بيد في مرحلة تاريخية، ومنعت القفزة الثانية باليد الأخرى، ناهيك عن إمام المسجد، الحارس العنيد والعتيد لأي كائن يفكر بأن يقفز، فينقض عليه مجنزراً بالآخرة، وبأروقة جهنم وبئس المصير.
أما مدرس المدرسة والجامعة المتوج بوقار المعلم الأعظم صاحب الخبرة والعلوم الدفاقة، فأي سؤال من طالب يجيبه بنصائح أمي: يابني لا تقفز على الواقع، فعقب كل قفزة رقبة تنكسر.
وإذا أتينا إلى حمم الإذاعة والتليفزيون، والصحف فيكادون لا ينامون أو يصحون إلا على تمائم ضد القفز، فيهرقون، ويسفحون الاستشهادات، تلو الاستشهادات من بطون التاريخ الهزيل والمتقهقر لمغامرين قفزوا فقادوا بقفزتهم العالم إلى الدمار.
من يتصفح أجندتنا الثقافية العربية، من تربوية، سياسية، دينية يراها ملغومة مركبة بثقافة الجزع، والخوف، ومشبعة بتعابير هلعة عن مصير من يقفز، ومستقوية بأولئك الذين تتدلى رؤوسهم بين أقدامهم منثورة بمحاذيرها الهستيرية لأي كائن انسي أو جني، أو حتى قملة لو تجرأت وقفزت في غفلة من أمرها من مقدمة الرأس إلى خلفه مثلاً.. فيتناسل هلعهم المكرور من أن المجاعة، وانعدام الحريات، واللا أمن، والتفسخ الثقافي والانهيار الأخلاقي ووو..الخ سببه القفز على الواقع الذي يأتى بكل هذه الأوبئة. فالقفزة الدينية تحوّل القافز إلى مرتد، والقفزة العلمية تحول العالم إلى مختل، والقفزة السياسية تحول السياسي إلى مغامر /خائن / لا وطني.. متقفز على ثوابت الأمة (الله /الوطن /الثورة/ الوحدة / القومية / الاشتراكية /).
تحاول هذه الأجندة أن تجعلنا مجتمعات خلقت لا لتقفز، بل لتمشي بتثاؤب وتكاسل مثل (الدجاج الممطورة)/ المبللة، أو الكائنات اللافقارية، الطحلبية التي ترتضي العيش داخل الأحراش، والخُزق والحفر. لذا فنخاعنا الشوكي، ثابت ومتجمد ومفتقد إلى وظيفته منذ القفزة أول قفزة للإنسان العربي.
لم تكتف هذه الأجندة بلي قوانين الطبيعة وتحويلنا إلى كائنات لا فقارية، بل وجعلتنا كائنات لافقارية لا تتنفس، مكتومة، مسمومة.
فمن هو هذا الواقع الذي سلبنا عظامنا، وقتل لذة القفز فينا؟ من هو هذا الواقع الذي يتلذذ بتحويلنا إلى أشباه كائنات ؟ ما كنه هذا الواقع بالضبط؟
من أين أتت هذه الثقافة اللافقارية، ثقافة الطحالب والطفيليات لتقول للإنسان اليمني والعربي المتربع على قمم الجبال، والذي لا يمكنه الوصول إلى مسكنه إلا بعد أن يكون قد قطع الجبال والمنحدرات بالقفز في ظل وعورة الطرق.. فكيف يكبلونه، ويقيدونه بثقافة اللاقفز التي لا يعرفها، ولا يمكن أن تتعايش معه، فهي غريبة، وشاذة على طبيعته؟
متي ستكف هذه الأجندة اللافقارية عن إهلاكنا برعب القفزة تارة باسم الدين، وتارة باسم الوطنية، وتارة باسم الخروج والمروق عن الواقع والتقاليد والتاريخ؟
أما يمكننا أن نبدأ بقفزة لنسترد عمودنا الفقري، وعظامنا المستلبة وأنفاسنا المخنوقة. نسترد دورتنا الدموية من تهلهلها في مسالك (الثابت، الواقع). فواقع لا يخلق لكائناته حرارة القفز، لا نريده، فنحن من صنعناه، ونحن من سنقول له قف / أو باللهجة اليمنية “وووووووووووب” القفزة الأولى بدأت 3،2،1.
ولا كيف تشوفووووووووو؟
arwaothman@yahoo.com
*كاتبة من اليمن