الدعوة لعودة النظام الملكي فى ليبيا تحركها وتمولها دولة الامارات ودولة أل سعود. تفعل ذلك لانها تعكس رسالة لشعبها مؤداها أن ثورات الربيع العربي فاشلة. فتونس ستختار الباجي قايد السبسي رئيسا لها، وفى مصر عاد الجيش ليحكم من جديد، وفى ليبيا سيعود النظام الملكي لسدة الحكم، “وكأنك يا بوزيد ما غزيت”، وليس فى الامكان أبدع مما كان! فارضوا بما وهبكم الحليم المنّان!
والمؤسف ان اقلاما مأجورة تدافع عن النظام الملكي وتدعو الان إليه كانت فى ماضيها أول من حرّض على زواله وتآمر مع حزب البعث السوري لتسليمها له! وهم لا يؤمنون بالملكية، ولا يرغبون فيها، لكنهم يرغبون فى ذهب السعودية ودراهم الامارات، ويبيعون فى سبيل المال كل ما يملكون. ولم يكتفوا بالمتاجرة فى علاج جرحى الثورة فى .بريطانيا، بل مضوا أكثر فباعوا اخر ما يملكون: ضمائرهم
والملك ادريس هو الذى أنهى النظام الملكي وكان مشاركا فعالا فى الانقلاب، وكان يؤمن بأن السنوسية حركة دعوية لا تسعى للحكم، ولم يكن مقتنعا بكون ولي عهده كفؤا لتولى الملك من بعده (راجع مذكرات محمد عثمان الصيد). وكانت علاقته به يغلفها الفتور والنفور، وعندما أنشأت الدولة الامريكية للأمير قصرا فى طرابلس منعه من الاقامة فيه. ولم يظهر معه إلا فى مناسبات قليلة جداً، ولم يعمل على تأهيله لتولي الحكم من بعده أو تكليفه بأية مهام تؤدي لنقل السلطة له بطريقة سلسة، ولم يكلفه إلا بمهمة واحدة هي تمثيله فى مؤتمر القمة الذى عقد بعد هزيمة 67 فى الخرطوم لان الملك لا يركب الطائرة وحينها كان المتحدث باسم ليبيا هو الملك فيصل!
وفى لحظة ما، ولسببٍ ما، قرر الملك التنحي عن العرش وليس تسليمه للأمير! وبدأ سلسلة زيارات وداعية شملت مدن ليبيا فى الشرق والغرب فى شتاء 68 /69، واستُقبل فيها استقبالات شعبية رائعة لم يكن الامير حاضرا فيها، ثم قرر مغادرة ليبيا الى اليونان فى 12/6/ 69 ولم يعد بعدها!
ومؤشرات انهيار النظام الملكي كانت واضحة للمراقبين الدوليين منذ بداية العام، حيث طلب الحبيب بورقيبة من السفير الليبي فى تونس ابلاغ الملك أن ليبيا تواجه فراغات ومخاطر انقلاب على السلطة وتشتت ضباط الجيش إلى مجموعات تعمل كل منها منفردة للانقلاب. وكان مصطفى المهدوي ينتقل بسيارة فولكس فاجن من معسكر إلى معسكر يدعو علنا الضباط للانضمام إلى الانقلاب القادم! وبعض السادة الوزراء فى ذلك الحين يؤكدون تلقيهم دعوات صريحة من ضباط كبار بالجيش للانضمام إلى تنظيماتهم! وبدأ العد التنازلي باستقالة عبد الحميد البكوش .وتولي ونيس القدافي رياسة الوزراء وبدأ اللعب على المكشوف
وأول مساهمات الملك فى الانقلاب، وهو بقاؤه بالخارج، كان عاملا مهما فى نجاحه. ووجوده فى الداخل ربما كان سيلغيه. وما كان له أن يترك البلاد تغوص فى الفراغ والفوضى ويرفض العودة إليها ليس زهداً ولا تعففاً، بل بقصد تسليم السلطة لأبناء الشلحى المخطط له 9/9/1969!
والادعاء بأن الملك استدعى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الشيوخ وأرسل معهم رسالة التنحي، وحدّد يوم 2 /9 /69 موعدا لتنصيب الامير، وثيقة مزورة. ولو كانت حقيقية، لعلمَ به مجلس الوزراء، وكان جرى التمهيد لإعلان هذا الحدث التاريخي قبل حدوثه بمدة كافية وبتنظيم احتفال بالمناسبة تحضره شخصيات دولية كبرى. لكن الوزراء انكروا معرفتهم بهذه الوثيقة، ولم يعلموا بنية الملك التنحي، ولم يكن الحديث عنه متداولا فى الشارع ولم يناقَش أو يبحَث بأي شكل فى اجتماع مجلس الوزراء. وفى احتفالات 9 أغسطس قبل الانقلاب بثلاثة أسابيع كان الحديث المتداول بين كبار المسؤولين عن قرب عودة مولانا.
وقد يكون الملك زاهدا أو نبياً، لكن الحكم لا يحتاج إلى قديس بل إلى شخص شجاع يكتب القرار فيرضي هذا ويغضب ذاك ويتخذ من الفشل وسيلة للنجاح. وهو بعد ذلك لم يكن زاهداً كما تعتقدون! وفى سنة 1962 طرحت الحكومة عطاء مدّ خط أنابيب لمياه الشرب من عين القداحية غرب “درنة” إلى مدينة “طبرق” طوله 200 كيلومتر لمد “قصر العدن”، مقر مولانا الملك المعظم، بالمياه العذبة. واخترق الخط مدينة “درنة” و”طبرق” وما بينهما دون أن تنزف منه قطرة واحدة للقرى والمدن العطشى، وجفت العين وفشل المشروع!
ولم يكن العهد الملكي خاليا من الرشوة والمحسوبية واستغلال الفرص، بل كان يعمه الفساد. ويكفى أن تذكر عبد الله عابد السنوسي وعمر الشلحي ومصطفى بن حليم. ولم تبرم الحكومة عقدا واحدا ليس فيه عمولة لشخصية محسوبة على النظام.
وكان نظامه بوليسيا بمعنى الكلمة! لم تكن فيه حرية صحافة أو تعبير أو حق فى التظاهر والغى الاحزاب. والانتخابات كلها مزورة والفائز معروف من البداية. ولم يمارس مجلس النواب أي دور إلا الموافقة بالإجماع على قرارات الحكومة. وتدخّل فى سير العدالة، وألغى بمراسيم ملكية أحكاما اصدرتها المحكمة العليا، وحوّل مدينة “البيضاء” إلى عاصمة للدولة مخالفا للدستور. وكان هو الحاكم المطلق الذى يعين الوزراء ويقيلهم!
وقبل اعلان الاستقلال لم يكن يؤمن بوحدة البلاد ورفض مقابلة الوفد الطرابلسي المبايع له بالإمارة، وحدد لهم مواعيد فى بنغازي يوم الاربعاء، وغادرها يوم الثلاثاء! لكن الانجليز صنعوا وحدة ليبيا، وأرغموه على قبولها! وليس صدفة أن يُكتب فى الدستور أن الادريس هو أمير “برقة” أولا ثم ملك ليبيا!
اما مسألة حب الجماهير له ففيها مغالطة كبرى. لقد تدفق الالاف بحماسة لتحيته فى المدن التي زارها، لكنهم خرجوا فى مظاهرات حاشدة تأييدا للانقلاب العسكري، لان الجماهير تبحث عن المنقذ. وحين كان الملك فى السلطة كان هو منقذها، وحين نُزعت منه بحثت عن منقذٍ جديد! وفى اليوم الاول للانقلاب، عمت المظاهرات الشوارع، وتوافد زعماء القبائل الذين كانوا سند الملك وحماةَ عرشه على كاميرات التليفزيون لإعلان ولائهم للحاكم الجديد.
والمشكل الذي يواجه هؤلاء الأفاقين أن البضاعة التي يسوّقون لها والمتمثلة فى ابن ولي العهد السابق لا تاريخ لها ولا يملك العلم أو الشخصية الكاريزمية التي يلتف الناس حولها، ولم يسبق له أن قام بأي مجهود فى سبيل ليبيا سوى اعلان أنه جاهز لتولي الحكم متى طُلِب منه ذلك، وأنا جاهز، وغيري جاهز، والبعثيون جاهزون، فلماذا يختارونه هو؟
magedswehli@gmail.com
طرابلس