من عشرات القرّاء الذين علّقوا على مقالنا الأخير (26/12/2009)، كان هناك من أرادوا التخفيف عليّ من زحف خريف العُمر، ومنهم القارئة الإسكندرانية أمل علوي، التي أصرّت أن الشباب هو شباب القلب… مع رجاء الاستمرار في التطلع المتفاءل للمستقبل، رغم ما يمر بالإنسان من أهوال وأحزان… وشاركها في هذه المشاعر الإيجابية مُعظم من تفضلوا بالتعليق، فلها ولهم الشكر الجزيل.
وكان هناك آخرون توجّسوا من أن يضيق صدري بما يكتبه بعض القرّاء… ورجاءاتهم الرقيقة أن أتحمل، وأن أكون أكثر صبراً. ولهؤلاء، أطمئنهم، أن حبال صبري طويلة. وحين يدخل إنسان السجن، فإنه لا بد أن يتعلم الصبر… حيث يكف تدريجياً عن النظر في ساعة يده، ثم في مُفكرته ـ على فرض سماح إدارة السجن له في الاحتفاظ بساعته ومُفكرته.. ويتوقف الزمن بالنسبة للسجين، حيث الرتابة والمَلَل في البداية، ثم تفقد هاتان الكلمتان معناهما تماماً بعد حين!
وهناك من اعتقد من القرّاء أنني كنت أسخر من “الإسلاميين” أو “القوميين”، باستخدام كلمتي “إسلامجي” و”قومجي”… ولم يكن ذلك قصدي على الإطلاق… وإنما استخدمت الكلمتين للدلالة فقط على من يُزايدون على غيرهم باسم “الإسلام”، “فيُكفّرون” أو “يُخوّنون” من يختلف معهم، لا فقط في “الأصول”، ولكن حتى في “الفروع”، وفي “الشعاب”. وبالمناسبة، فقد مرّ معظم أبناء جيلي بمراحل غلوّ مُماثلة للإسلامجية والقومجية… ولا يعني النضج السياسي تنكراً للدين أو القومية أو الوطنية. ولكنه يعني فقط تجاوز درجات الغلوّ أو التطرف المُصاحب لمرحلة المُراهقة الفكرية في غالب الأحوال. لذلك لزم التنويه.
أما ما أريد التركيز عليه هذا الأسبوع فهو دعوة لكل من كتبوا إليّ خلال الشهر الأخير، مؤيدين لترشيح د.محمد البرادعي لمنصب الرئاسة في مصر، أن يبدأو في تنظيم أنفسهم، لكي يكونوا جزءاً، لا فقط من “حملة انتخابية” بالمعنى الفني الضيق للكلمة، ولكن من “حركة اجتماعية أكبر”، لتغيير مصر إلى “مجتمع ديمقراطي”. وليكن لهم في تجربة باراك أوباما الأمريكية، أسوة حسنة.
فما هي أهم معالم وخصائص تجربة أوباما؟ وهل هناك أوجه شبه تُذكر بين تجربة في مجتمع متقدم مثل أمريكا، وآخر مُتعثر مثل مصر؟
وبداية، فإن أهم وجه شبه، هو أن أوباما والبرادعي يأتيان من “خارج الصندوق” المُعتاد لتخريج الرؤساء. ففي حالة أوباما، كان هو أول زنجي (أسود) يجرؤ إلى التطلع لمنصب الرئاسة الأمريكية. ثم أنه ذو أصول مسلمة. وهو أيضاً أمر غير مسبوق في الولايات المتحدة. وبهذا المعنى نستخدم تعبير من خارج الصندوق (out of the Box). والصندوق المصري منذ يوليو 1952، هو صندوق “عسكري”، ومنذ 1977 (تاريخ عودة التعددية الحزبية) هو صندوق “الحزب الوطني”. ومحمد البرادعي ليس من هذا، ولا من ذاك. ومن ثم ليس له نفس الميزات التي تتوفر “لأصحاب الصندوق”. ولكن يعوض ذلك أنه أيضاً لم يتلوث بكل تراكمات نصف قرن من الآفات والجراثيم التي تعفّنت في ذلك الصندوق. لذلك كان من أهم ما قيل عن باراك أوباما في الشهور الأولى للحديث عن ترشيحه، هو أنه “وجه جديد طازج” (anew fresh face) وهو ما ينطبق على محمد البرادعي أيضاً.
وكانت هذه الطزاجة، في حالة أوباما، هي ما جذب إلى حملته ملايين الشباب الأمريكي، مُبكراً، وقبل بداية موسم الترشيحات بعام كامل.
وحينما فاز أوباما في أول سباق تمهيدي ضد هيلاري كلينتون وغيرها من الوجوه المعروفة، قال الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في تفسير خسارة زوجته، “أنها لم تكن في سباق عادي ضد مُرشح آخر، ولكنها كانت في سباق ضد حركة اجتماعية”!
وحينما تأكد ذلك له ولزوجته بعد ثاني خسارة، انسحبت هيلاري تماماً من السباق، ورمت بثقلها خلف باراك أوباما، في بقية الحملة الانتخابية، حيث فاز بكرسي الرئاسة، واختارها أوباما وزيرة للخارجية، وهو ثالث أهم منصب سياسي في النظام الأمريكي.
إن الشباب الأمريكي استخدموا طاقاتهم ومهاراتهم الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية، والفيس بوك، في حركة اجتماعية، غير مسبوقة منذ ستينات القرن العشرين، وأطلقوا عليها “امضي إلى الأمام” (move on)، لا فقط تأييداً لأوباما، ولكن أيضاً “لتغيير واشنطون”، وجعلها أكثر استجابة لحاجات المحرومين داخل أمريكا، وأكثر حماية للبيئة الكونية. ولم تنفضّ تلك الحركة الاجتماعية بانتخاب باراك أوباما. بل استمرت لمراقبته ومُحاسبته معنوياً… وفي يدها بالطبع سلاح الانتخابات التالية. وهكذا، إلى جانب مجلسي الشيوخ والنواب والمحكمة العُليا، التي لا بد لأي رئيس أمريكي أن يعمل لها حسابات، هناك تلك الحركة الشبابية (امضي إلى الأمام) التي لا بد لأوباما أن يحتفظ بثقتها وتأييدها، إذا ما كان يأمل الفوز بولاية ثانية.
إن أقرب مثل لحركة “امضي إلي الأمام” الأمريكية في السياق المصري هي حركة “كفاية”، والتي سبقت امضي إلى الأمام بأربع سنوات.
ولا أدري (وأنا خارج مصر) ما إذا كانت حركة “كفاية” قد أعلنت تأييدها لترشيح د. البرادعي من عدمه، إلى تاريخ كتابة هذا المقال (28/12/2009). فإذا لم تكن قد فعلت، فأرجو أن تفعل، أو أن تبدأ غيرها حركة جماهيرية مُشابهة، لا فقط من أجل البرادعي، ولكن من أجل تغيير مصر، إلى مجتمع ديمقراطي مدني مفتوح. فهذه هي الفرصة التاريخية السانحة لذلك. وما البرادعي إلا عنوان لها.
إن مٌطالبتي بتعديل الدستور وبانتخابات رئاسية تنافسية وسجني (2000-2004) وتعديل الدستور فعلاً (2005)، وظهور حركة كفاية، وترشيح أيمن نور، وسجنه (2005-2008) هي كلها معالم على طريق الخلاص لمصر المحروسة. ويجيء احتمال ترشيح محمد البرادعي علامة فارقة على نفس هذا الطريق. فعلى شباب مصر، سواء من خلال حركة كفاية، أو من خارجها وبدونها، أن يهبوا لتغيير مصر:
أولاً، جمع توقيعات، وتنظيم مسيرات سلمية لمجلس الشعب، لطرح المواد 76 و77 و88 للتعديل، بحيث يحق لكل مصري له حق التصويت أن يكون له حق الترشيح للمجالس المُنتخبة ولرئاسة الجمهورية أيضاً. فهذا الأخير ليس بالضرورة أهم أو أفضل ممن يُسنّون القوانين لعموم الناس.
ثانياً، أن يتم تعديل تلك المواد، أو صياغة دستور عصري جديد، على الحركة الاجتماعية المرجوة، أن تجمع من التوقيعات، أو مُطالبة الأحزاب ذات الحق في الترشيح، أن تدفع باسم د. محمد البرادعي، كمرُشح عن واحد أو أكثر منها، حتى لو أصرّ هو على الاحتفاظ بصفته المُستقلة.
ثالثاً، أن تستمر هذه الحملة ـ الحركة في دعم المُرشح البديل لآل مُبارك ـ سواء كان حسني مُبارك نفسه، أو أحد نجليه، أو عُمر سليمان، أو من شابههم. فالمهم أن تكون هناك مُنافسة حقيقية. وهذا هو المعنى الذي تطرقنا إليه في مقالين سابقين حول “عودة السياسة إلى الحياة المصرية المُعاصرة”. وعلى القارئ العادي لهذا المقال، وخاصة من هواة كُرة القدم، أن يتصور الدوري المصري، بدون أحد النوادي الكبيرة، مثل الأهلي، أو الزمالك، أو الإسماعيلي، مثلاً. إنه سيكون في تلك الحالة، دوري مُمل، لا طعم له، ولا إثارة فيه. وسينصرف عنه مُعظم الناس. وهذا بالمُناسبة هو سبب انصراف مُعظم الناخبين عن المُشاركة في الانتخابات، والتي وصلت أدنى مُستوياتها عام 2005، حيث لم يتجاوز 23%، بينما ظل ثلاثة أرباع الناخبين في حالة مُقاطعة لما يعتبرونه مهزلة عبثية سياسية!
رابعاً، أن ما ندعو إليه أعلاه، ليس بدعة لا في حياة المجتمعات الحية، ولا في مجتمعنا المصري نفسه. فهكذا بدأت ثورة 1919، بحملة توقيعات وتوكيلات مليونية لسعد زغلول ورفاقه، للحديث باسم الشعب المصري، والمُطالبة باستقلال مصر، في مؤتمر فرساي، الذي انعقد صبيحة الحرب العالمية الأولى (1919). وليس الجيل المصري المُعاصر بأقل من أسلافه قبل ثمانين عاماً، بل ولديه من التعليم والوسائل الاتصالية، ما لم يتوفر لجيل أجداده، الذين استخدموا القطارات وظهور الخيل والبغال والجمال والحمير، للتجوال في كل أرجاء مصر لجمع تلك التوقيعات التوكيلات.
فهبوا، وانهضوا، وتحركوا، يا أبناء مصر، قبل أن تضيع هذه الفرصة السانحة.
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد
semibrahim@gmail.com