عندما لا يدخل فريق مذهبي حلف الأقلّيات، يبحث النظام السوري عن طريقة لمعاقبة هذا الفريق الذي يفترض به أن يكون تحت جناحيه وفي تصرّفه بصفته العلويّة.
هذا ما يحصل حاليا في السويداء حيث يهدّد النظام الدروز بـ”داعش”، حليفه الموضوعي في الحرب التي يشنّها على شعبه. استفاد النظام من دون شك من مجزرة قلب لوزة في محافظة إدلب السورية، وهي مجزرة راح ضحيتها نحو عشرين مواطنا درزيا قتلتهم “جبهة النصرة” التي تعتبر حاليا قوّة أساسية في المواجهة مع النظام. اراد إستغلال المجزرة في مكان آخر، أي في السويداء التي تمثّل مع جبل لبنان ثقل الوجود الدرزي في سوريا ولبنان والمنطقة.
اراد النظام، الذي أسّسه حافظ الأسد، القول للدروز أن كلّ الأقلّيات في حمايته وأن على من يرفض هذه الحماية ودفع ثمن الحماية تحمّل النتائج. هذا ما يفسّر إلى حدّ كبير سحب النظام قواته من مناطق معيّنة قريبة من السويداء دعما لـ”داعش”. أراد أن يؤكّد للدروز أنّه سيتركهم لمصيرهم، خصوصا بعد رفض دروز جبل العرب في حوران التجنيد الإجباري، أي أنّهم رفضوا الدخول في الحرب التي يشنّها النظام على شعبه من منطلق مذهبي…
اللعبة التي يمارسها النظام السوري قديمة. لا يتقن غيرها على الرغم من أنّه عفا عنها الزمن من جهة، إضافة إلى أنّها صارت مكشوفة من جهة أخرى. لا يعرف النظام، وربّما لا يريد أن يعرف، من هم الدروز وما أهمّية الدروز في المنطقة وما أهمّية الدور الذي لعبوه في مجال نشوء الكيان السوري. رهانه على لعبة تجاوزتها الأحداث، خصوصا أن التطورات على الأرض تتسارع على نحو سريع وذلك في اتجاه واحد وحيد يتمثل في سقوط النظام بشكل رسمي بعد سقوطه عمليا على أرض الواقع وتحوّله دمية ايرانية لا أكثر.
متى استعرضنا ما فعله النظام السوري في لبنان منذ سبعينات القرن الماضي، خصوصا من خلال تعامله مع الطوائف فيه، نجد أنّ بشّار الأسد لا يمتلك غير القراءة من الكتاب القديم الذي تركه له والده. في الفصل الأول من الكتاب العداء لسنّة المدن والتحالف مع سنّة الأرياف. هذا ينطبق على سوريا ولبنان في آن، علما أن بشّار لم يدرك أصلا معنى دخوله في مواجهة مع سنّة الأرياف انطلاقا من درعا.
في فصل آخر من الكتاب القديم الذي يقرأ منه بشّار الأسد، وهو فصل لا يقلّ في أهمّيته عن الفصل الأوّل، هناك تركيز على الأقليات وعلى كيفية بث الرعب في جسم كلّ أقلّية من أجل الإحتماء بصاحب أكبر ميليشيا مذهبية في المنطقة، أي ما يُفترض أنّه “الجيش العربي السوري”، الذي يسيطر عليه الضباط العلويون.
هناك نظام حماية للأقلّيات فرضه حافظ الأسد الذي عمل في البداية على تدجين مسيحيي لبنان عن طريق تخويفهم بالفلسطينيين. كان حافظ الأسد في اساس انتشار الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان وتوسيعه. كان الهدف واضحا كلّ الوضوح. اراد التأكيد للمسيحيين أن جيشه هو الوحيد القادر على حمايتهم من السلاح الفلسطيني الذي كان يتدفّق على لبنان من الأراضي السوريّة.
قبل ذلك، في صيف العام 1973، بعث، عندما أغلق الحدود مع لبنان، برسالة بالغة الأهمّية والوضوح إلى سليمان فرنجيه، الرئيس اللبناني وقتذاك. فحوى الرسالة، التي فهمها سليمان الجدّ تماما، أن هناك رئيسا واحدا لسوريا ولبنان هو حافظ الأسد وأن لا مجال لتعاط من الندّ للندّ بين رئيسي البلدين.
جاء إغلاق الحدود في أيّار ـ مايو 1973 بعد مواجهات بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية المسلّحة. ساهم في إشعال المواجهات تنظيم فلسطيني، موال في قسم منه، للنظام في سوريا يدعى “الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين”. خطف هذا التنظيم، الذي يريد تحرير فلسطين، والذي تبيّن أن بعضه تحت رعاية الأجهزة السورية جنديين لبنانيين…على الأرض اللبنانية!
كان تسليح الميليشيات التابعة للأحزاب المسيحية في لبنان ووضعها في مواجهة مع المسلّحين الفلسطينيين جزءا من استراتيجية النظام السوري الذي عمل في الوقت ذاته على تهجير مسيحيي الأطراف إلى جبل لبنان. من يتذكّر مجزرة القاع قرب الحدود السورية ـ اللبنانية وغيرها من المجازر التي ارتكبها النظام السوري بدم بارد في السبعينات من القرن الماضي؟
سقط المسيحيون، في معظمهم، في الفخّ السوري. لم يدركوا خطورة حلف الأقلّيات عليهم، وهو الحلف الذي يؤمن به اليوم ويعمل من أجله شخص مثل النائب المسيحي ميشال عون اراد في العام 1990 الإنتصار على حافظ الأسد مستعينا بصدّام حسين وياسر عرفات!
في موازاة عملية إخضاع المسيحيين ودفعهم حتّى في إتجاه اسرائيل، كان هناك جهد إنصب على تدجين الدروز أيضا. لم يكن إغتيال كمال جنبلاط في العام 1977 بعيدا عن هذا الجهد في وقت كان حافظ الأسد يرفض كلّيا أن يشاركه أي طرف لبناني وغير لبناني في الإمساك بالورقة الفلسطينية. كان مطلوبا في كلّ وقت إخضاع الدروز وتأليب المسيحيين عليهم وتأليبهم على المسيحيين. هل صدفة تشجيع عملاء النظام السوري الدروز على قتل مسيحيين في قرى الشوف فور انتشار نبأ إغتيال كمال جنبلاط على يد ضابط علوي معروف بالإسم ومجموعة تابعة له؟
كان هناك في كلّ وقت، عداء لا حدود له لدى النظام السوري لأهل السنّة في لبنان، خصوصا لسنّة المدن. تشهد على ذلك بيروت وطرابلس وصيدا.
إغتال النظام السوري، أو الذين يمون عليهم، شخصيات عدة. إغتال المفتي حسن خالد في عهد الأسد الأب وإغتال رفيق الحريري في عهد الأسد الإبن. إغتال الرئيسين صائب سلام وتقيّ الدين وآخرين سياسيا.
حدث على كلّ ذلك على خلفية استمالة شيعة لبنان كي يشكلوا عنصرا وازنا يضمن استمرار حلف الأقلّيات بقيادة العلوي السوري.
جاءت الثورة السورية لتغيّر كلّ المعادلة الإقليمية التي طرأ عليها تغيير جذري في العام 2003 مع تسليم اميركا العراق على صحن من فضّة إلى ايران. جاءت الثورة في وقت صارت ايران اللاعب الاساسي في سوريا ولبنان، خصوصا بعد ملئها الفراغ الأمني والعسكري الناجم عن الإنسحاب السوري من لبنان بعد حصول جريمة إغتيال رفيق الحريري في العام 2005.
يلعب بشّار الأسد حاليا في الوقت الضائع. إنّه الوقت الذي يفصل بين السقوط العملي للنظام وسقوطه رسميا. ما ورد في الكتاب القديم الذي ورثه عن والده لم يعد ينفع. هذا لا يعني في أي شكل التقليل من الخطر الذي يهدّد دروز سوريا.
من هذا المنطلق، تبدو دعوات وليد جنبلاط إلى التعقّل والرويّة في محلّها. وليد جنبلاط يعرف ما هو النظام السوري. يعرف تماما مدى خطورته ومدى إقتناعه بنظرية أنّ نهايته يجب أن تعني نهاية سوريا أيضا، بما في ذلك نهاية دروزها وكلّ الأقلّيات فيها…إنّه بالفعل نظام خطر على كلّ ما هو حضاري في المنطقة مثل ثقافة العيش المشترك. إنّه نظام خطر في حياته وفي مرحلة مماته ذات الطابع الذي يتسّم بالبطء الشديد.