كأن كل شيء يجب أن ينتهي من حيث بدأ. دكتاتورية البروليتاريا بدأت وانتهت في روسيا. ودولة ولاية الفقيه الإسلامية بدأت في إيران وتقترب الآن من خط النهاية هناك. في الحالتين كان للثورة تداعيات تجاوزت البلد المعني، وألقت بظلالها على السياسة والثقافة والمجتمع في محيطها القريب والبعيد. فلن يتمكن أحد من كتابة تاريخ القرن العشرين دون التوّقف أمام ثورة البلاشفة. وبالقدر نفسه لن يتمكن أحد من كتابة تاريخ الشرق الأوسط، وعالم الإسلام، في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن نفسه دون التوّقف أمام الثورة الخمينية.
وفي الحالتين، أيضا، لم يكن نظام البلاشفة الخيار الأفضل لمستقبل روسيا، ولا كان نظام الجمهورية الإسلامية الخيار الأفضل لمستقبل إيران. لم تكن الثورة في البلدين شرطا للتحديث والتقدّم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وما تحقق في ظل الثورة كان من الممكن تحقيقه، وبتكلفة أقل، عن طريقة الإصلاح والتراكم.
يمكن الكلام عن أشياء كهذه بأثر رجعي دائما. وهي غير مفيدة إلا بقدر تذكيرنا بحقيقة أن الثورة ليست بالأمر الإيجابي في جميع الأحوال. وربما كانت الثورات الفاشلة أكثر أهمية وأبعد تأثيرا، وأقل ضررا، من ثورات نجحت وأنشأت أنظمة تستمد شرعيتها من الانتساب إلى فكرة الثورة نفسها.
الثورة الطلابية، مثلا، التي اجتاحت أوروبا الغربية في أواخر الستينيات لم تسقط أنظمة، ولا أنشأت أنظمة جديدة، لكنها تركت آثارا بعيدة المدى على بنية المؤسسات الأكاديمية وعلى الممارسة السياسية والثقافة في الغرب.
وبالقدر نفسه تنجم عن الثورات الناجحة والفاشلة تداعيات فكرية وسياسية، تستقل عنها وتتخذ لنفسها مسارات مختلفة ومتناقضة. فنظام دكتاتورية الطبقة العاملة، الذي حاولت حركات ثورية كثيرة في العالم إعادة إنتاجه، استنفر ردود فعل مضادة في مجتمعات مختلفة حاولت التصدي لشبح الماركسية بمزيد من الحقوق والقوانين الكفيلة بتحقيق قدر أكبر من المساواة، إلى حد أن العمّال في أوروبا الغربية أصبحوا في وضع أفضل بكثير في ظل أنظمة رأسمالية من أقرانهم في بلدان تحكمها بيروقراطية حزبية تزعم تمثيلهم وتحكم باسمهم. وبالتالي فإن الكثير مما تحقق في الغرب من أنظمة وحقوق مدين في جانب منه للماركسية نفسها، التي تركت بصمة دائمة ونهائية على أفكار وسلوك خصومها الأيديولوجيين في القرن العشرين.
وإذا جاز القياس فإن وصول فكرة الدولة الإسلامية إلى طريق مسدودة في إيران سيترك آثارا بعيدة المدى على أفكار وسلوك الحركات الأصولية في العالمين العربي والإسلامي. الدولة الدينية غير ممكنة في الأزمنة الحديثة، لكننا نحتاج إلى أمثلة وتجارب للتدليل على أمر كهذا. ولدينا الآن ما يكفي من الأمثلة، بعد النموذج الطالباني، والسوداني، والموجات الأصولية التي حاولت الاستيلاء على مقاليد الحكم في الجزائر وبلدان عربية مختلفة عن طريق الإرهاب.
ولعل إيران هي النموذج الأبرز. صحيح أن جزءا كبيرا من الإيرانيين يقف إلى جانب النظام القائم، وصحيح أن المتظاهرين لا يطلقون شعارات معادية لنظام الجمهورية الإسلامية، بل يرفعون شعارات إصلاحية. ولكن الصحيح، أيضا، أن علامة استفهام كبيرة ترتسم الآن بشأن جدوى أو شرعية نظام كهذا.
لم يكن من الممكن الكلام عن، أو اكتشاف، علامة استفهام بهذا الحجم قبل ثلاثة عقود. وهذه، أيضا، مفارقة تاريخية، ولا نحتاج إلى أكثر من حسابات بسيطة لإدراك أن المتظاهرين والمتظاهرات في شوارع طهران اليوم هم أبناء وأحفاد الرجال والنساء الذين تظاهروا في الشوارع نفسها قبل ثلاثة عقود. المفارقة أن الأبناء والأحفاد يعيدون النظر في تجربة وميراث الآباء.
تجربة الآباء أوصلت رجال الدين إلى سدة الحكم في طهران، وفي الوقت نفسه أطلقت ديناميات تغيير ثقافية وسياسية كارثية وهائلة الحجم في العالم العربي، في القلب منها فكرة مباشرة وراديكالية مفادها إمكانية توظيف الدين كأيديولوجيا سياسية، سواء لتثبيت أنظمة قائمة، أو للإطاحة بها.
وفي سياق هذه الفكرة نشأ كل ما تم تداوله في العالم العربي، على مدار العقود الثلاثة الماضية، من كلام عن الهوية، والأصالة، والخصوصية. وهي في الأغلب أفكار ملفقة ومختزلة وتبسيطية، لكنها تحوّلت إلى خطاب سائد نتيجة الدولارات النفطية، والتحالفات السياسية بين الراديكاليين والمحافظين.
أخيرا، كان الكلام عن إيران في السنوات الأخيرة باعتبارها شيعية وفارسية ومعادية للعرب جزءا من البضاعة الأيديولوجية للوهابيين السعوديين من ناحية، ومحاولة لإنشاء وتلفيق هوية سنيّة عربية (غير قائمة في الواقع لكنها تصلح بديلا للقومية العربية، الجريحة والمفلسة، ولكن شبه العلمانية) عن طريق المغايرة والاختلاف مع النموذج الشيعي الإيراني من ناحية ثانية. وفي الحالتين كانت السياسة تتغطى بتعبيرات طائفية ومذهبية، رغم أن الهويات الطائفية والمذهبية السنيّة والشيعية مجرد بقايا أركيولوجية، تنتمي إلى أزمنة مضت، وتحضر في تجليات فلكلورية، تصبح مأساوية تماما إذا تحوّلت إلى سياسة.
المتظاهرون في إيران اليوم أخوتنا وأخواتنا، وبقطع النظر عن النجاح والفشل، المهم أن تجربة جديدة تلوح في الأفق، ومفادها أن نظام ولاية الفقيه مشروخ، ولا يحظى بالإجماع. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعرب فقد شجع صعود الموالي في إيران ما لا يحصى من الفقهاء والمتدينين الجدد على الحلم بإنشاء أنظمة دينية في العالم العربي، ولكن بعد الحدث الإيراني الكبير، والشجاع، سيبدو الحلم أقل واقعية. وهذا درس فصيح وصريح من إيران، ودليل جديد على مكر التاريخ.
Khaderhas1@hotmail.com
جريدة الأيام
درس فصيح وصريح من إيران..!!
Dear Mr. Kadr:
It is totally unfair to compare the Russian Revolution and its contribution to humanity and the civil society with the theocracy of Iran.
Thanks and regards.