لحظة ينتحر المنطق يصبح كل شيء مباحاً، يصير الهروب تلو الهروب حبل الخلاص في وقت الشدائد، لحظة ينتحر المنطق، من الممكن أن تجعل من الأبيض أسود على إيقاع التصفيق الحاد والتطبيل الاعلامي، كيف لا، في حال كان الانتحار هذا، جماعياً.
من هروب إلى هروب، جاء دور ميفوق وسيدتها وقافلة الشهداء، حيث فاق عدد المحتجين ضعف المطبّلين المزمّرين وشهود الانتحار، هؤلاء الذين استقبلوا العماد الهارب من خيبة جزين وإليها، اللاجئ إلى ملعب ميفوق بعد هروبه الأخير من مواجهة أهاليها والشهداء وبعد نجاته من محاولة اغتيال سخِر منها بعض مَن يصنّفون بالمقرّبين من الحاشية الليمونية.
هناك، وفي حضرة الأرز وحرّاس الأرز في القبور المكلسة، أراد “العماد الرئيس عون” أن يقول للجبيليين “الأمر لي”، مستفيداً من هدوء الساحة، فـ”الجنرال اللدود”، رئيس البلاد وابن جبيل وعمشيتها وضابط ايقاعها، غادرها في زيارة رسمية إلى البيرو والأرجنتين، انها الفرصة الذهبية لاستدراج الأضرحة وتجديد “حرب الاخوة” لتوظيف الحقد في صناديق المكاسب الانتخابية، هي نظرية نبش قبور الشهداء (ما غيّرها)، للاستيلاء المعنوي، حتى على الاضرحة، هكذا خيل له.
تمنطق من جاء عونه من الله وحزب الله ببعض الشخصيات غير الجبيلية وانطلق في موكب مهيب غير وهمي ومواكب وهمية كثيرة، نفض الكثير من الغبار عن بعض الشخصيات “المنسية” من الجبيليين الموارنة الطامحين، فهرعوا يستشعرون في حضرته كأنّ شيئاً لم يكن وهم أنفسهم مَن قالوا ويقولون وسيقولون فيه، في الصالونات المغلقة، ما لا ولم ولن يقله “مالك” في الخمرة. فهم أيضاً من جماعة انتحار المنطق. لكن هؤلاء “الحجاج” الموارنة، لكشافة المهدي مصفقون، ونتيجة الاختيار منتظرون، مع انهم، واهمون واهمون.
عاد الجنرال من “قضاء الرئيس” بـ”الدب والجرّة”، دب يحمل جرة تقدمة من بلدة اهمج، فالدب هو رمز البلدة كما يقال والجرة ترمز الى “اجرار الذهب” التي اغدقت على عون الجبّار من معظم القرى والبلدات الحرة سيما اهمج الحالمة بالتحرير، ذاك المتمرد الذي سجل فشلاً مدوياً في تكسير رأس الأسد.. انتحار المنطق يدفع بطيبعة هؤلاء إلى تكرار التجربة، لكن هذه المرة، ولو رمزياً، اعطيت الجرة لمَن يريد حماية “الشبل” ابن ذاك الأسد برموش العيون، هو نفسه، هو هو، انه هو بشحمه ولحمه، ميشال نعيم عون المولود في 17 شباط 1935 عاشق الـ”جلنار” (زهر الرمّان بالايراني)، ابن حارة حريك البعبداوية المتحدر من المكنونية الجزينية. والله العظيم انه هو نفسه. قائد الهزائم المتتالية والخيبات، من “الالغاء والتحرير” مروراً بـ”الاصلاح والتغيير” وصولاً الى “الخيبة وبئس المصير”.
وبما ان الأجرار بالأجرار تُذكر، ما من عيب يمنعنا ويمنعكم رفاقي من سؤال “العماد الرئيس عون” أين أصبحت الأجرار تلك. ما هو مصيرها؟ كيف أحوالها؟ أين تقبع؟ تحت الأرض؟ فوق الأرض؟ فرنسا؟ رابية؟ سويسرا؟ نيجيريا؟ بترون؟ رأس الدكوانة؟ هل تحولت الى اسهم؟ ماذا عن الاسهم؟ (خسرانة ربحانة)، أين هم الشركاء؟ كم هي الفائدة؟ لمَن ذهبت الحصص؟ ماذا عن الارباح ومتى قطع الحساب؟
ما من مانع يمنعنا من قول الاشياء كما هي وبصدق، حتى لو كانت في بعض الاحيان جدّ قاسية. لكنها حقيقية، فمَن يغالي في الغوص بالمركب المثقوب إلى قعر القعر، عليه أن يدرك ان في السكوت عن الخطايا والأخطاء القاتلة جريمة، في عدم القفز من المركب والابحار الى الشاطئ جريمة، في الاعتراض الصامت جريمة، في التغاضي عن الصفقات جريمة، في التأفف بالسير وأمام العشرات والعشرات فقط جريمة، في تبرير عمليات الخطف جريمة، في السكون عن الكبتاغون جريمة، في عدم المطالبة بالمأسسة الحزبية جريمة، في التكيف مع حكم الفرد والاقطاع جريمة، بصريح الكلام، عليكم أن تخرجوا يا حضرات الرفاق لمواجهة الرأي العام الناقم على تصرفات قائدكم العظيم، الرأي العام الممتعض منكم، من فشل سياستكم في أفشل حكومة لكم فيها حصة الأسد، من تجاوزات حليفكم وحليف حليفكم، من سكوتكم على نسيان المعتقلين في سجون العار، من تجاهلكم لأبناء جلدكم الهاربين الى اسرائيل والمنسيين هناك يستصرخون العودة، من خجلكم، من جنبكم ومن زحفكم الأبدي السرمدي طمعاً بألقاب بائدة ومراكز فارغة وحصص بالية، على الأقل طالبوا جنرالكم بتطبيق بنود التفاهم مع حزب الله لناحية المعتقلين في السجون السورية والمنفيين الى اسرائيل، هذا أبسط الايمان.
أنا أعلم ومتأكد أن من بينكم مدسوسين، قوميين، عوميين، بعثيين، طامحين، جبناء، حاقدين، جشعين، بسطاء، طيبين، لكن من بينكم عقلاء وشرفاء كثر، هذه الشريحة من بينكم مدعوّة بمحبة الى الانتفاض كطائر الفينيق، مدعوة بسلام الى الاعتراض العلني بدلاً من الثرثرة في المقاهي التي لا ولن تغير أي شيء، صالحكم وطالحكم حالياً في نفس المنزلة لأنكم جميعاً في المركب المثقوب، صرتم للنظام الدموي تابعين مهللين مصفقين ومع رحيله راحلون.. استفيقوا استفيقوا، انتفضوا، أولستم شعب لبنان العظيم؟
انظروا حولكم كيف تدخلون البلدات بهزالة، ألا تخجلون؟ إسألوا الرأي العام القريب منكم، هل يقبل بمبدأ تخليد الأسد إلى الأبد؟ هل يقبل بالتغطية العمياء للموبقات الناتجة عن الاستقواء بسلاح حليفكم والتجاوزات؟ هل سيسكت عن انحداركم الى اسفل الأسفل، إلى قعر القعر، اذهبوا الى الكورة الخضراء، قابلوا ناسها، إسألوهم لماذا تراجعوا عن تأييدكم الأعمى، أنا سبقتكم إلى هناك، ذهبت، سألت، والنتيجة في جيبي، سياسات جنرالكم الانطاكي ما عادت تطاق كونها خرجت عن المألوف.. اذهبوا الى تنورين، الى البترون، البترون لا ولم ولن تموت.
اذهبوا الى الجبل، الى قرى التهجير في الشوف وعاليه، إسألوا هؤلاء البشر الذين ما بخلوا بتأييدكم يوماً، هل يقبلون بما تفعلون؟ حتماً لا. إسألوا شرفاء المتن وكسروان، هل يقبلون بقانونكم النسبي “الشبهة” على قاعدة الدوائر الـ13؟ هل يقبلون بتجيير قرارهم للبلوك الشيعي المرتبط عضوياً بولاية الفقيه الايرانية في بعبدا وجبيل؟ قطعاً لا، حتماً لا. إسألوه وبصريح العبارة لماذا يرفض قانون الدوائر الصغرى الذي يؤمن 57 نائباً للمسيحيين فيما يسوق
لقانون حزب الله النسبي. ألم تكن هذه معركتنا منذ العام 2005 لتأمين أفضل الممكن من المقاعد المنتخبة مسيحياً؟
ماذا تغيّر حتى تحول رأيكم بقانون الدوحة الذي “حرر الصوت المسيحي” وحرر بيروت، ولماذا الاستماتة في استبداله بالنسبي الحق الذي يراد منه باطل نتيجة تعذر خوض المعارك الانتخابية تحت سطوة السلاح، ناهيك عن “فرز وضم” مشبوهين لاغلبية الدوائر؟
اما حان وقت “الصحوة اللبنانية “يا شعب لبنان العظيم”، أما حان وقت رفع الصوت، أحد لا يطالبكم الخروج من تياركم، المطلوب تصويب الاداء، ناقشوه حاوروه، مارسوا عليه الضغوط، هددوه بتركه وحيداً إن لم يقبل العودة الى نقاء تيارنا الوطني الحر، لا تخافوه، هو أعجز من اغضابكم، اعجز من الرد عليكم حتى.. اما حان وقت الوقفة الجريئة قبل فوات الأوان؟ نحن فعلناها، كان لنا شرف المحاولة، وها هي تنبت تأييداً وعند كل استحقاق وفي كل محطة، الرأي العام يراقب جيداً، يراقبنا جميعاً، ويتحين اللحظة المناسبة ليختبرنا جميعاً، لا شك ان كلمته ستكون موجعة..
يقال ان كثير الحب هو كثير العتاب، كثير الحساب وكثير العقاب، فأنتم لا تستحقون لقب الانتماء إلى العائلة القابضة مقابل خسارة محبة الناس، عودوا الى “التيار الوطني الحر” الذي ينتظركم قبل فوات الأوان، لأن بعده، لن ينفعكم البكاء، ولا حتى صرير الأسنان.. علامات الخسارة تتجلى على محياكم يوماً بعد يوم واستحقاقاً بعد استحقاق، حتى لو عاد جنرالكم من بلاد جبيل، بالدب والجرة.
becharakhairallah@hotmail.com
كاتب وناشط سياسي عضو لجنة الاعلام السابق في التيار الوطني الحر
المستقبل