1-
سأل رئيس تحرير “الحياة” اللندنية، غسان شربل، في آب الماضي (2014): “مِنْ أين جاء داعش؟ كيف ولد وتحوّل وحشاً كاسراً؟ وخطراً وجودياً على الدول والمجموعات والأفراد؟ ومن أين هذه القدرات الهائلة؟ والبراعة في الإعلام؟ وإدارة المعارك على مساحة آلاف الكيلومترات؟ وبيع النفط وتكديس الدولارات وتصنيع الانتحاريين والعبوّات؟ من أين جاء هذا الوباء الأشد خطورة من إيبولا، والأكثر قدرة على الانتشار؟” أغسطس 2014
جاء كلام شربل بعد قرابة شهرين من استيلاء داعش على الموصل (ثاني أكبر مدينة في العراق) في حزيران الماضي (2014). ويمكن التأريخ لما لا يحصى من الأسئلة، التي تنتمي إلى، أو تتفرع عن، تساؤلات شربل، بيوم سقوط الموصل العراقية. وهذا لا يقتصر على العالم العربي، ففي كبريات العواصم في العالم تتردد أصداء أسئلة وتساؤلات كهذه: من أين، وكيف، جاء هؤلاء. ومن المنطقي، تماماً، التسليم بحقيقة أنها ستلازمنا إلى سنوات طويلة قادمة.
ويمكن في ممارسة أولية لتحليل الخطاب العثور، في لغات مختلفة، على مشاعر الحيرة، والدهشة، والذهول، والذعر، والاستنكاف، والاشمئزاز، في ثنايا كل تلك الأسئلة والتساؤلات. وربما تختصر هذا كله مقالة نشرها هشام ملحم، في مجلة بوليتكو الأميركية مؤخراً، واختار لها عنواناً يوحي بدلالات كثيرة: “البرابرة أصبحوا داخل القلعة: الحضارة العربية انهارت ولن تتماثل للشفاء في حياتي” [2]
وعلى الرغم من أهمية، وضرورة، هذا كله، إلا أن ما لا يحصى من تجليات الاجتهاد في طرح الأسئلة، أو تقديم ما يرقى إلى مرتبة الجواب، ينم عن خلل في المنهج والرؤية. ولا أعني بذلك التحليلات، التي ترصد حراك القوى المُنخرطة في الصراع الدائر على الأرض، سواء في الإقليم أو العالم، بل المقاربات الفكرية، التي تحاول الارتفاع بهذا القدر أو ذاك عن السياسة “اليومية”، والتحيّزات الأيديولوجية.
ومنشأ الخلل عدم التمييز بين سؤالين هما: منْ داعش، وما هو داعش؟ وكلاهما يمثل الفرق بين الهوية (Identity) والماهية (Essence)، فالأوّل يحيل إلى الأيديولوجيا، بينما يحيل الثاني إلى الطبيعة الأصلية لشيء ما، وإلى ما يجعله هو. ومن الواضح أن السؤال الأوّل يحظى بالأولوية، ويحجب كل ما سواه.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأيديولوجيا يمكن الحديث عن الوهابية السعودية، باعتبارها المُرضعة الأولى، أو حتى العودة إلى تاريخ الإسلام الأوّل وما شهده من فتن وصراعات، وإذا اقتربنا من النصف الثاني من القرن العشرين، تصبح العودة إلى الإخوان المسلمين ممكنة، بينما تعيدنا الجينالوجيا إلى السلفية الجهادية، والقاعدة، وحروب أفغانستان، والشيشان، وصولاً إلى الزرقاوي بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
ويمكن، بالتأكيد، إضفاء قدر من الصدقية على كل ما تقدّم في سياق قراءته على خلفية الحرب الباردة، ونظريات الحزام الأخضر، أي الحيلولة دون وصول الدب الروسي إلى المياه الدافئة، من خلال توظيف الدين في مقاومة الشيوعية، أو حتى في سياق الحرب الباردة العربية ـ العربية، التي وظّفت فيها الجمهوريات الراديكالية العربية أفكار القومية العربية، بينما قاومتها الملكيات والمشيخات المُحافظة بالتحيزات القبلية، والدينية، وانتقلت بها بعد الطفرة النفطية من الدفاع إلى الهجوم.
2-
في كل ما تقدّم ما يسهم في تشخيص مسألة الهوية، وبالتالي العثور على إجابات محتملة، كلما سألنا: “مَنْ داعش؟”. وعلى هامش هذا كله تتفرّع تأويلات من نوع أن “هذا لا يمثل الإسلام”، أو هؤلاء “خوارج”، إضافة إلى كل ما يخطر، ولا يخطر، على البال من نظريات المؤامرة، التي لا تتورع عن تصويرهم كصناعة أميركية. وكلها تدخل في باب السياسة “اليومية”، وتصفية الحسابات الأيديولوجية، وترجمة التحيّزات الإقليمية والدولية. ولكنها، في كل الأحوال، تُرغم سؤال الماهية “ما هو داعش؟” على البقاء في دائرة المسكوت عنه، أو حتى اللا مفكر به.
قبل الكلام عن سؤال الماهية “ما هو داعش؟”، تجدر الملاحظة أن كل ما يتصل بسؤال الهوية، أي الأيديولوجيا يحيل إلى خصوصية عربية وإسلامية، تاريخية، أو دينية، وسياسية، أو هذه الأشياء كلها، بمعنى أنه يعاني من نقص يتمثل في عدم وضعها في سياق كوني أشمل، باعتبار أن فيها ما يتجاوز خصوصيتها العربية والإسلامية. وفي ظل الاعتراف بنقص كهذا، وضرورة تجاوزه، ما يمكننا من مقاربة سؤال الماهية بطريقة أفضل.
ويمكن، في هذا الصدد، أن نبدأ بما لا يحتل حيّزا واسعاً في وسائل الإعلام، مقارنة بذبح الرهائن أمام عدسات الكاميرا، وسبي النساء، وفرض الجزية على المسيحيين، وتهجيرهم، وقتل الشيعة وغيرهم: وأعني بذلك تدمير الآثار، والمعالم التاريخية، بما فيها الدينية. ففي تقرير نشرته صحيفة النهار البيروتية، [3] نجد في قائمة المعالم الدينية والتاريخية، التي دمرها داعش، ما يلي:
تدمير جامع وضريح الشيخ فتحي، الذي يعود تاريخه إلى العام 1050 ميلادية، وجامع ومرقد الشيخ قضيب البان، الذي يعود تاريخه إلى العام 1150 ميلادية، ومرقد الإمام الباهر، الذي يعود تاريخه إلى 1240 ميلادية، وضريح الإمام يحيى أو القاسم، الذي يعود تاريخه إلى 1240 ميلادية، وضريح الإمام عون الدين، الذي يعود تاريخه إلى العام 1248 ميلادية، وجامع النبي يونس، الذي يعود تاريخه إلى العام 1365 ميلادية، وجامع النبي جرجيس، الذي يعود تاريخه إلى العام 1400 ميلادية، وجامع النبي شيت، الذي يعود تاريخه إلى العام 1647 ميلادية.
وعلاوة على ما تقدّم، دمّر داعش في المواصل قبر المؤرخ ابن الأثير الموصلي (1160 ـ 1232) وتمثال الشاعر إبي تمام (803 ـ 845) وعثمان الموصلي (1854 ـ 1923) الشاعر والعالم بفنون الموسيقى. وهناك، أيضاً، كنيسة مهددة بالزوال هي كنيسة شمعون الصفا، التي يعود تاريخها إلى العام 300 ميلادية، وتعتبر من أقدم الكنائس في العالم، وكنيسة مار أحوديني، التي يعود تاريخها إلى العام 575 ميلادية، وكنيسة الطاهرة العليا، التي يعود تاريخها إلى العام 1250 ميلادية. وهذه الكنائس، على الأرجح، مرشحة للنهب، وبيع آثارها، قبل تدميرها، أو تحويلها إلى مساجد داعشية، وكذلك الأمر بالنسبة لمتحف الآثار في الموصل، الذي يضم قطعاً أثرية لا تُقدّر بثمن، وتُمثل مقتنياته مصدر دخل هائل لتمويل الدواعش.
يبدو التذكير بهذه القائمة، وهي ليست حصرية، ولا نهائية، وتقتصر على مدينة عراقية واحدة، ضرورياً للتدليل على حقيقة أن ما يمثل ماهية داعش، لا يتجلى إلا باعتباره نقيضاً لفكرة الحضارة نفسها. والحضارة فكرة جديدة في التاريخ الإنساني، تنتمي إلى الأزمنة الحديثة، ويندرج فيها اهتمام الجماعات القومية، خاصة في حدود الدولة/الأمة بابتكار سرديات خاصة بشأن وجود الجماعة، وتاريخها، وشواهدها الحضارية، ولغتها، وآدابها، ومعالمها الثقافية، وفي هذا السياق وُلدت فكرة المتحف، والمكتبة الوطنية، ونشأت علوم التراث، والتاريخ، والآثار، باعتبارها عنصراً رئيساً في تشكيل الذاكرة الجمعية.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني
يتبع