كثيرون الآن ينْدبون “المقاومة” التي غرقت في البحر السوري الهائج. يعبّرون بوضوح عن خيبة أملهم: “كنا نؤمن…! كنا نعتقد…! بأن “حزب الله” حزب مقاومة. وإذا به الآن حزب يدافع عن بشار الأسد!!!”. تلك هي خلاصة مشاعر الذين صدّقوا يوماً ما يقوله الحزب عن نفسه، من أنه جمع “الشرفاء”، ورافع راية المظلومين المستضعفين، ومضحّ برجاله من أجل إحقاق الحق، خصوصاً حق فلسطين…. الخ. وها هو الآن في المكان الذي نعرف… بعض من هؤلاء الخائب ظنهم، من شدة “مفاجأتهم” وأحياناً “صدمتهم”، لا يريدون أن يصدّقوا تماماً إنهيار فكرة “المقاومة” هذه، فيناشدون الحزب بالإنسحاب من القصير… فيما الحزب يتوغّل في العمق السوري، نحو دمشق ثم حلب. يتكلمون وكأن الحزب “إنحرف” عن مقصده الأصلي، كأنه كان شيئاً وصار شيئاً آخر. ثم يأملون… لعلهم بذلك يهيئون أنفسهم لخيبة أعظم.
ولكن: هل فعلاً انحرف الحزب عن خطه الأصلي؟ أم أنه منسجم تماماً مع هذا الخط؟
إذا كان الجواب على هذا السؤال حرفياً، فله مرجع ونص مكتوب، وتجده في الوثيقة التأسيسية للحزب، وقد أطلقها عام 1985، والتي يبشّرنا فيها بأنه ينوي، مع مقاومة الصهيونية والإمبريالية، أو بعدها، إقامة جمهورية إسلامية في لبنان، مثل الإيرانية. هذه الوثيقة لم يتبرأ منها الحزب يوماً؛ جمّلها، زيّنها، موّهها، ولكن عندما “تمكّن” أضافَ اليها وضوحاً على وضوح، بتصريحات أعيانه المعتزة من انهم إنما يأتمرون بأمر الولي الفقيه… ولا لبس في الموضع…
أما اذا أردنا إجابة “ميدانية”، فلن نجد أفلح من حرب تموز 2006: ماذا أعطت هذه الحرب لللبنانيين أولاً، ثم والفلسطينيين، أصحاب القضية الملعوب بها؟ ما هو السبب الجوهري لإندلاع هذه الحرب؟ بماذا أفادت لبنان؟ بماذا أفادت كافة المعذبين بشجون فلسطين وشؤونها؟ وما هو المضمون الفعلي لهمروجة “الإنتصار التاريخي الإلهي الإستراتيجي”، الذي أُدخل الى العقول بصخب الصراخ؟
محصلة حرب 2006 كانت أولاً كارثية على كل هؤلاء، ولكنها كانت أساساً نعمة الهية هبطت على “حزب الله” وجعلته ملك اللعبة والتلاعب السياسيَين في بلده الصغير. قلنا “أساساً”، لأنه، بعد هذه الحرب-النعمة، صارت الدولة الايرانية تمعن في رفع “ورقة حزب الله وجنوب لبنان” بوجه كل من يهدّدها بالنووي. ومن ورائها عادت سوريا بشار الأسد وتسللت الى لبنان، بعدما كانت انتفاضة شعبية عارمة قد طردت جيوشه منه.
تلك كانت وظيفة “المقاومة” التي اشبعنا لسان “حزب الله” ومحبوه بصفّ كلماتها وتنميقها كيفما اتفق؛ كل تعبيرات هيمنتهم وسلوكياتها استمدوها من تلك المشروعية الزائفة. ولم يكن “انتصارهم الالهي…”، غير استقواء على عباد الله، المواطنين، إما بغسل مخهم، أو بإرهابهم؛ ولازمتهم، حجتهم، ترنيمتهم: “اذا كنا استطعنا أن ننتصر على اسرائيل…!”، وهذا السؤال صار مأثورة، صيغة علاقة مع الآخرين، وفحواها: “من تكونوا أنتم لتتجرأوا وتقفوا بوجهنا… نحن الذين انتصرنا على اسرائيل!؟”. والى ما هنالك…
نظام “حزب الله” هو، من حيث البنية، شبيه بالنظامين الايراني والسوري: بالـ”مقر” و”الممر”. الأول، الإيراني، أمام إنتفاضة شعبه ضد تزوير الانتخابات عام 2009 ، لم يكن بوسعه الا إغراقه في الدماء. “تنازل” واحد لمطالب هذا الشعب، أو تعامل غير وحشي معهم… هو بمثابة سقوط جدار من ذاك البناء المحكم، كل زاوية فيه ليست أقل من حجر أساس، لا تحتمل خدشاً… كي لا نقول نقداً أو إنتفاضة.
النظام السوري على المنوال نفسه. من كان يتوقع منه مبادرة أو إصلاحاً، أو وحشية أقل، كان واهماً أو راغباً بالتوهّم، أو مسوَِقا خبيثاً لمبادرات باطلة من أساسها. تخيّل فقط لو سمح بشار بحرية التظاهر، أو بإدخال قليل من الترتيبات والإقالات، قليل من التعويضات، المعنوية خصوصاً… قبل أن يخيب ظن المتظاهرين الذين باتوا لا يطالبون بأقل من سقوطه. لم يكن ذلك ممكناً، ولا يتعلق الأمر ببصيرة بشار المفقودة، ولا بجرعة الشرّ التي ورثها عن أبيه؛ إنما بالمنطق: إذا استجاب لقدر قليل مما يطالبه به شعبه، سوف يسقط أيضا معه جدار، أو تفتح ثغرة… يرى هو ومن حوله انها بداية نهايتهم، وهم على حق.
نظام “حزب الله” مثل النظامين الإيراني والسوري، مقفل بإحكام. وهو يلتقي مع حلفائه حول هذه النقطة كما ينضوي تحت استراتيجيتهما. وضمن هذه الانظمة الثلاث المقفلة بالذات، يترتّب علينا فهم “تبدّلات حزب الله” الأخيرة. وهي ليست مفاجئة إلا عند المصدّقين، المرشحين للإصابة بهكذا نوع من خيبات الأمل.
لم تخفِ ايران يوماً طموحها بالسيطرة على بلادنا. ولا أخفى “حزب الله” إندراجه تحت ولاية فقيهها. وإن ألبس استتباعه هذا أقنعة الحق، وصدقته “جماهير” و”نخب”. ولا نظام الأسد تنكّر يوماً للجميل الإيراني، وقد مدّته إيران، كما مدّت “حزب الله” بوسائل الإستقواء على شعبه وعلى محيطه. وهذا مكسب عظيم لسلطة تبحث من دون هوادة عن سبل بقائها على عرشها.
نحن إذن أمام كتلة إسمنتية متراصة المكونات، لا يتحرك بداخلها شيء إلا وتهتزّ أركانه. كان من المنطقي جداً أن لا يتزحزح بشار الأسد قيد انملة على ثوابته، أن يهجم على شعبه بهذه الشراسة (وإن فاقت، هذه الشراسة، كل التوقعات). بالقدر نفسه لم يخرج “حزب الله” عن جلده، ولا تنكّر لنفسه… عندما انخرط الى جانب بشار في معركته ضد شعبه. هو فقط رمى شعاراته جانباً، معوّلا على طاقة النسيان… مشاركته في المعارك كانت أشد تعبيرات إنسجامه مع نفسه: حزب ميليشيات مسلحة في خدمة نظامين هما ركنيه الأساسيين، الاول هو الأصيل، القائد، الإيراني، والثاني الرديف هو السوري.
للمزيد، فلنتصوَّر العكس: أي أن يمتنع “حزب الله” عن التدخّل في سوريا، أن “ينأى بنفسه” حقاً، احتراما لـ”عقيدة” الحكومة التي شكلها، ثم أسقطها. أو، فلنتصوّر أيضاً، أن ينكبّ الحزب على الإغاثة وعلى كافة المشكلات الهائلة، الناجمة عن تدفّق اللاجئين السوريين الى لبنان… أو، لنتصور أيضاً وأيضاً، أن يدافع، بسلاحه، عن حدود لبنان الشرقية والشمالية من الخروقات، او الإهتزازات الأمنية… أو إذا وضع كل ثقله لحل مشكلة الكهرباء المتفاقمة… أو أي شيء حيوي آخر… هل يكون الحزب نفسه الذي نحن بصدده الآن؟ هل يكون أمينا لولائه اذا لم يدخل سوريا الى جانب الايرانيين، الداعمين بالمال والسلاح والخبراء والـ”مستشارين”… الخ؟ هل يرمي كل “إنجازاته”، وخصوصا حرب 2006 في البحر، هكذا من دون حساب ولا تدبير؟ هل تذهب أدراج الرياح 7 أيار 2008 والقمصان السود؟ يترك “مقره” يستميت بمفرده للدفاع عن “ممره”، ويمتنع… هو “رأس حربة الممانعة”؟
كلها تساؤلات عبثية طبعاً. هي فقط تمرين للخائبين، للذين كانوا يظنوها “مقاومة” واذا بها حجرة أساسية من ذاك البناء الباطوني المقفل المسمى “المحور الايراني”. وحدهم الاسرائيليون فهموا الأمر ولم يخيبوا ظناً: عندما ضربوا مخازن الجيش النظامي مؤخراً، ربتوا على كتف بشار وقالوا له: “إطمئن… الضربة ليست ضدك، بل ضد ايران”.
أيها الخائبون من المقاومة الآن. كففوا دموعكم. انها حرب، وبشعة، صحيح… ولكنها أيضا لحظة وعي جديد، لا بد من إلتقاط إشاراته… وإلا فسوف تلاحقكم الخيبة كيفما وليتم.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل