تُعد خطبة الجمعة (17 /7/ 2009) السابقة التي ألقاها هاشمي رفسنجاني (رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، ومجلس الخبراء)، من الأحداث التاريخية الهامة في تاريخ الثورة الإيرانية، ليس فقط لكون هاشمي رفسنجاني ظل منقطعاً عن حضور صلاة الجمعة أو إلقاء الخطبة طوال خمسين يوماً منذ أزمة الإنتخابات، ولكن لأن ما أعلنه رفسنجاني سيكون مفتتحاً للعديد من الصراعات الداخلية في إيران خاصة على مستوى النخب السياسية، فرفسنجاني هو ثعلب النظام كما يُلقّب، وهو المنظر والمؤسس للعديد من توجهات النظام الإيراني على المستوى الإقتصادي والإجتماعي، وخاصة لتاريخه الطويل منذ بدايات الثورة الإيرانية، وقمعه لكل أنماط المعارضة، بالإضافة لسطوته على (البازار) الإقتصاد الإيراني، وتقلده للعديد من المناصب المُسيرّة للسياسة الإيرانية، من
رئيس البرلمان، ثم رئاسة الجمهورية، وصولاً لمناصبه الحالية، مصاحباً ذلك بالعديد من المعارك السياسية التي حسمت أغلبها
لصالحه، لقدرته الدائمة على صنع سياق سياسي موازي يستخدمه ضد معارضيه حتى لو كان النظام ذاته. ومثلت سطوة الحرس الثوري في الأونه الاخيره وسطوع نجم (نجاد) اهم التحديات التي واجهت نفوذ رفسنجاني، مما أدى إلى إحتوائه التيار الإصلاحي المناقض للنظام العسكري الجديد، مستفيداً من تاريخه الشخصي وطبيعة علاقاته المتناقضة مع كل الأطياف السياسية في إيران، لما يمثله رفسنجاني من تيار معتدل مجسد في حزبه (كوادر البناء)، كما مثلت خطبته الأخيرة خروج عن صمته الذي استمر لأسابيع، ودعوته لكل أطراف الإصلاح لحضور صلاة الجمعة. فحضر (مهدي كروبي) و(مير حسين موسوي) التي الذي حضور صلاة الجمعة لسنوات طوال فكان مجرد حضوره سابقة تاريخية، يُعلن بها رفسنجاني سيطرته التامة على هذه الكتلة السياسية. كما حضر العديد من رموز الإصلاح، ورموز التيار الراديكالي، في مشهد سياسي واحد نادر الحدوث، مع الغياب الملفت للرئيس (أحمدي نجاد).
ـ خطاب رفسنجاني والتلاعب بكل الأطياف:
قبل الخطاب بيوم واحد أصدرت صحيفة “كيهان” الرسمية التي تتبع المرشد الأعلى مباشرة، بياناً تتطالب فيه رفسنجاني بتحديد
موقفه النهائي من الإصلاحين اللذين أسمتهم الصحيفة بـ”لمنافقين”، فيجب عليه التنصل منهم وإدانتهم المباشرة. كانت لهجة هذا
البيان تحمل العديد من الإشارات من المرشد ذاته لتوريط رفسنجاني في موقف محدد حيال الأزمة الحالية ، بشكل يترتب عليه خسارة
رفسنجاني لأحد الأطراف المتصارعه ، والأهم خسارة شعبيته الجيدة في الشارع الإيراني ذاته.
ولكن رفسنجاني تمكن من خلال سمة الاعتدال التي يتبناها منذ سنين أن يضمن الشارع بشكل مباشر، وينقل مساحة الصراع إلى عالم النخب. فمجرد دعوته لرموز الإصلاح كانت إجابة كافية على بيان صحيفة كيهان. فأشار في خطابه أن الإنتخابات كانت فرصة تاريخية غير مسبوقة لحرية الشعب الإيراني، بصرف النظر عن الفائز في الإنتخابات. فعملية الإنتخابات في ذاتها بكل هذا الحضور الشعبي ستسجل في تاريخ إيران الحديث. ولكنه وجه اللوم إلى موسوي وكروبي ورضائي لعدم استغلالهم فرصة تقديم الشكاوي لمجلس صيانة الدستور بدلاً من اللجوء للشارع. ولكنه في نفس الوقت أشار إلى أن الأزمة الحقيقية بدأت بعد الإنتخابات وعدم قدرة النظام على إحتواء المعترضين أو المعارضين، وعدم قبوله بأي صوت مناهض لمصلحته، ودعا وبشكل واضح إلى إخلاء سبيل كل المعتقلين دون شروط أو محاكمات. فالثورة الإسلامية لم تنتج نظاماً قمعياً، يخرج عن الحدود القانونية، في إشارة عكسية لحكومة نجاد.
وفي ضربة سياسية موجعة، أشار رفسنجاني أن الحكم المطلق لابد وأن يعتمد على الناس، فهذا ما أراده الخوميني وهذا ما نص
عليه الدستور. فبداية بالولي الفقيه ونهاية برئيس الجمهورية الجميع يتم اختيارهم من قبل الشعب. فاختيار الولي الفقيه يتم عن طريق مجلس الخبراء والمجلس منتخب شعبياً، وكذلك إنتخابات رئيس الجمهورية. ـ أي أن رفسنجاني يناقض الأسس الفقهية التي قامت عليها الدولة الإيرانية، في مبدأ الولاية المطلقة للفقيه، وهذا المبدأ بالذات يُعد من التابوهات الرئيسية التي تحدد من خلالها كل التيارات السياسية والحزبية في إيران. وأشار مستدلاً بالتاريخ النبوي أن دولة المدينة هي الأساس في تأسيس الدولة الإسلامية في إيران، والرسول قد قبل كل التوجهات والإتجاهات، ولكن التعامل مع المعارضين بهذا الأسلوب ينافي التعاليم الدينية، ومبادئ الثورة الإسلامية. فبدون الشعب الإيراني الذي نزل إلى الشارع في مواجهات دموية ـ على حسب تعبيره ـ في بدايات الثورة منذ ثلاثين عاماً، ما كانت الثورة. فلا بد من اخترام رغبات هذا الشعب والنزول إليها. في محاولة من رفسنجاني لتهديد الوضع العسكري الأني فالشارع الذي لم يخفه جيش الشاه لن يخاف من أي قوة عسكرية أخرى.
وفي نفس السياق أشار رفسنجاني إلى ما يحدث في الصين حالياً، وموقف الحكومة الصينية من (الأيغور المسلمين) والدعم الروسي للحكومة، مشيراً أن هذا سيؤثر في موقف الصين الدولي خاصة داخل الدول الإسلامية التي تعتمد عليها الصين إقتصادياً بشكل كبير، في إشارة منه إلى الدعم السياسي الذي يتلقاه نجاد من الحكومة الصينية، في محاولة منه لتوجيه الرأي العام ضد الدول الداعمة للنظام الرئاسي الحالي مثل روسيا والصين بوصفها دولاً ضد المسلمين، لإسقاط شرعية الدعم الذي يعتمد عليه نجاد أمام التوجهات الغربية والأمريكية ضد إيران. فكأن رفسنجاني قد بدل (الموت لأمريكا) بـ (الموت لروسيا والصين) كما أشارت شيرين عبادي تعليقاً على خطبة رفسنجاني.
فرفسنجاني تمكن في خطابه من التلاعب بالشارع وضمانه إلى جانبه، وحاول إسقاط الشرعية عن النظام الرئاسي الحالي، بوصفه نظاماً مرفوضاً شعبياً وفي نفس السياق خارجاً عن الإطار الديني بتلك المعاملة القمعية. كما ألمح أن سبب الأزمة الأخيرة يتلخص في البعد عن رجال الدين القادرين على حل أي إشكالية، في إشارة منه لتقلص دور الحوزة الدينية، وإبعاد أغلب رجال الدين عن المراكز القيادية، وكذلك محاولات التشكيك التي ألقاها بعض المزايدين بعمالة موسوي أو غيره ـ وذلك في إشارة لوصف جريدة كيهان لموسوي بالخائن والعميل. فموسوي كما وصفه رفسنجاني مستعيراً لوصف الخوميني له بأنه (مهندس النظام)، وذلك أثناء الحرب العراقية الإيرانية.
رد فعل النخب:
كان لإشارات رفسنجاني رد فعل عنيف على مستوى النخب السياسية. فآية الله يزدي، عضو مجلس صيانة الدستور، اعتبر أن ما قاله رفسنجاني خروج عن نظام الجمهورية الإسلامية. فقد وجه إليه إنتقاداً عنيفاً نشر على موقع (ايسنا: وكالة أنباء طلاب إيران)، أشار فيه أن نظام الجمهورية الإسلامية بقبل كل التوجهات المعارضة، ولكن لا يقبل أي مؤامرة على النظام، هذا من جانب، ومن أخر فإن نظام الحكم في الإسلام يعتمد على الناس في اكتمال الحكومة ولكن لا يعتمد عليهم في اختيار الحاكم، فالحاكم مولى من قبل الله ذاته، حتى الرسول الذي كان حاكماً شرعياً وسياسياً لم يكن ذلك باختيار الناس ولكن هو اختيار الله الذي وافق عليه الناس. وبالتالي لا بد ألا ينسى رفسنجاني أن الولي الفقيه هو نائب للإمام الغائب وليس فقط حاكماً متغيراً بتغير رأي العامة. فآية الله يزدي مثّل في هذا السياق رد فعل النخبة السياسية الداعمة للمرشد الأعلى ولنجاد وللمؤسسة العسكرية. فما أعلنه رفسنجاني يُعد تهديداً ماثلاً للنظام على أركانه الفكرية الأساسية.
وفي رد لصحيفة “كيهان” الرسمية، أعلنت الصحيفة في خبر لها أن الحضور الشعبي لخطبة رفسنجاني لم يكن قوياً مقارنة بالحضور أمام خطبية المرشد الأعلى، أي أن رفسنجاني لم يحقق الشعبية أو الجماهيرية التي كان يصبو إليها في الاحداث السابقة، كما أن تصريحاته التي أدان بها النظام الرئاسي بل ونظام الجمهورية الإيرانية بشكل عام لم تلق تأييداً واسعاً إلا وسط الإصلاحيين
الذي أشاد بدورهم، وقد تسبب خطابه في زعزعة السلام الإجتماعي فقد خرج العديد من مناصري موسوي في الشارع وواصلوا الصدام مع قوات الأمن، مما أضر بالمصالح العامة للشعب الإيراني الذي أشار إليه رفسنجاني في خطابه.
وفي سياق أخر وكرد عملي بدأ نجاد في الإعلان عن أسماء حكومته الجديدة. فأهم الأسماء التي أعلن عنها، (اسفنديار رحيم
مشايي)، كمستشار أول لرئيس الجمهورية، رغم ما أثاره هذا الرجل من أزمة تلت تصريحاته بأن الشعب الإيراني صديق للشعب الإسرائيلي وأن لا خلاف بين الشعبين ولكن الخلاف بين الانظمة، مما أثار حفيظة مجلس الشورى عليه في الفترة السابقة لنجاد. ولكن رغم ذلك فقد أختاره نجاد بسبب كونه ذا صلة عائلية أي صلة نسب، كما أنه قد شغل منصب رئيس المخابرات في عهد رئاسة خامنئي ويُعد من المقربين منه. ولكن نجاد في النهاية بدأ بتشكيل حكومته المزمع عرضها على البرلمان خلال الشهر القادم. كما أعلنت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية، أن هناك ضغوطاً شديدة تمارس على رفسنجاني لحضور مراسم إعلان حكومة نجاد في البرلمان فقد اعلن رفسنجاني أنه لن يشارك فيها في محاولة لزلزلة الوضع السياسي لنجاد بعدم حضور رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام مراسم الإدلاء بالقسم.
وما تزال المعركة مستمرة بين التوجهات السياسية المختلفة داخل دائرة النخبة الإيرانية، مع استمرار محاولات نجاد
والمؤسسة العسكرية لعزا الشارع عن هذا الصراع حتى لا يشكل ثقلاُ سياسيا في دائرة إتخاذ القرار، والمحاولات المضادة
لرفسنجاني والمجموعة الإصلاحية التي رغم كونها لا تتمتع بموقع سياسي متميز على مستوى المناصب، ولكنها ذات شعبية لا يستهان بها. فالرهان على الشارع رهان إصلاحي منذ البداية.
الشارع والقمع العسكري:
أعلنت صحيفة (اعتماد ملي) الناطقة باسم الحزب الذي يرأسه (مهدي كروبي)، أن كروبي قد تعرض لمضايقات من قبل رجال الأمن بملابس مدنية، وأنهم قد منعوا إنضمام مناصريه له، حتى وصل الأمر لتشابك يالأيدي أدى إلى سقوط العمامة من على رأس كروبي، كما وجه له سيل من الشتائم ، بشكل لا يليق برئيس لمجلس الشورى لدورتين متتاليتين.
كما نال نفس المصير (عبد الله نوري) وزير الداخلية الأسبق في حكومة خاتمي وأحد رموز الإصلاح الأن والعضو في نفس الحزب الذي أسسه كروبي، ولكن بشكل أقوى. فقد تعمدوا الصدام به، ومنعوه من حضور الصلاة ثم تركوه، وتعرض للشتم والتقريع من قبل أناس لا يعلمهم وليس لهم أي توجه واضح إلا أنه شاهدهم بعد ذلك يضربون المعارضين في سياق المصادمات بعد الخطبة. وعلى سياق أخر نفى رئيس جهاز الشرطة أي من هذه المعلومات وقال إن حدث هذا فلن يكون بواسطة رجال الأمن، ولكن قد يكون من معارضي كروبي.
وعلى المستوى الشعبي، منع أنصار موسوي الذين توجهوا بملابسهم الخضراء لحضور صلاة الجمعة في تمام الساعة الحادية عشر، من الدخول إلى ساحة الحرم الجامعيا. وتم إغلاق البوابة الرئيسية في وجوههم ومنعوا من الدخول نهائياً، مما حتم إنتشارهم في الشوارع المحيطة بالجامعة رافعين شعارات (يا هاشمي إن سكت ستكون خائناً)، (الموت للصين ، الموت لروسيا، الموت للديكتاتور)، وذلك في سابقة من نوعها. فرفسنجاني تمكن من صنع حالة رفض مضاد واستغلال الطابع الإحتشادي للشعب الإيراني لإعادة توجيه ضربة سياسية لنجاد في الشارع ذاته، كما نشرت العديد من وكالات الأنباء مشاهد لبعض من الجموع الشعبية وهي تحرق العلم الروسي في الشارع. كما رفع المتظاهرون شعار (نحن لسنا أهل الكوفة ولن نترك الحسين وحيداً) ، ( يا حسين
مير حسين)، وكذلك (استقيلي يا حكومة الديكتاتور) كرد فعل على تصريحات رفسنجاني في خطابه من وجوب نزول الحكومة على رغبات الشعب، مما استتبع بالطبع مصادمات عنيفة بين أنصار موسوي وقوات الأمن وسلسلة من الإعتقالات العشوائية، في رد بليغ من الحكومة على طلبات رفسنجاني الإفراج عن المعتقلين.
فرفسنجاني قد أجاد في هذه المرحلة الاستفادة من رصيده السياسي وخبرته الحقيقية في التعامل مع أزمات النظام، لتحقيق مكاسبه الشخصية بشكل واضح، فكان رد فعل الشارع على خطابه أسرع مما توقع الجميع، ولكن الاهم هو رد فعل النخب السياسية التي لن تتهاون لحظة في مواقفها المعلنة والمسكوت عنها.
ahmedlashin@hotmail. co. uk
• متخصص في الشؤون الإيرانية