يثير اسقاط تركيا للمقاتلة الروسية كلّ الهواجس التي طبعت تاريخ العلاقات بين البلدين منذ ما يزيد على قرن ونصف قرن، اي منذ حرب القرم بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية منتصف القرن التاسع عشر، مرورا بالمجازر التي ارتكبها الجانبان وكان من ابرز ضحاياها الشركس والأرمن… وصولا الى سعي روسيا الى ان تكون شريكا في وراثة تركة الدولة العثمانية.
جاءت الثورة البولشفية في العام 1917، اي بعد سنة من اتفاق سايكس ـ بيكو الذي كانت موسكو طرفا فيه، لتحرم الإتحاد السوفياتي من حصّة في المنطقة. كان على الحكام الجدد للكرملين الإهتمام، بداية، بالداخل وببناء الإتحاد السوفياتي بدل التمدّد في اتجاه المياه الدافئة. ما لبث الكرملين ان جهد لتعويض ما فاته، خصوصا خلال الحرب الباردة. كانت سوريا في كلّ وقت نقطة تركيز سوفياتية. بقيت محطّ اهتمام روسيا بعد انهيار الإتحاد السوفياتي. اثبت فلاديمير بوتين عندما تدخّل عسكريا في سوريا قبل شهرين روسيا ما زالت تعتبر سوريا منطقة نفوذ متجاهلة ان هناك تركيا جديدة، على رأسها رجب طيب اردوغان الذي لا يبدو مستعدا باي شكل للعب دور المتفرّج على التحولات التي يشهدها بلد لديه حدود طويلة مع تركيا.
كان اسقاط الطائرة في الأراضي السورية رسالة فحواها ان تركيا موجودة ايضا في سوريا. كان رجب طيب اردوغان يرد على قول علي خامنئي وفلاديمير بوتين بعد اربع وعشرين ساعة من اجتماعهما في طهران ان وجهة نظرهما “موحّدة” ويرفضان ” ايّ محاولات خارجية لإملاء فرضيات في شأن تسوية في سوريا”.
كلّ ما فعلته تركيا انّها ابلغت الجانبين الروسي والإيراني انّ ليس في الإمكان تقرير مصير سوريا ومستقبلها في غيابها. اذا كان من تقسيم لسوريا، فهي مصرّة على ان تكون لديها حصّتها من البلد.
يشير اسقاط المقاتلة الروسية الى ان كلّ الإطراف المعنية مباشرة بالموضوع السوري بات تعتبر قضية مستقبل بشّار الأسد قضيّة منتهية، فيما السؤال هل لا يزال واردا انقاذ بعض المؤسسات كالمؤسسة العسكرية مثلا التي استثمرت غيها روسيا منذ خمسينات القرن الماضي، خصوصا في صفوف الضبّاط العلويين؟
بالنسبة الى تركيا، جاء الآن وقت تقسيم سوريا وفق مصالح محددة تأخذ في الإعتبار مصالحها. بات مفهوما ماذا تريد ايران، كذلك معروف ماذا يهمّ روسيا. ترفض تركيا وضعها امام امر واقع تفرضه الميليشيات المذهبية التابعة لإيران والقوّة العسكرية الروسية. ترفض تركيا الاستسلام لخيار تقاسم ايران وروسيا لسوريا.
لن تستسلم تركيا للمنطق الروسي والإيراني القائل ان الأولوية للحرب على “داعش” وذلك اخفاء لعناوين اخرى. صحيح ان “داعش” يمثل تهديدا للأمن والسلام الدوليين وانّه تنظيم ارهابي من الدرجة الأولى استفاد الى حدّ كبير في مرحلة معيّنة من تسهيلات تركية ومن مدرسة الإخوان المسلمين التي ينتمي اليها اردوغان، لكن الصحيح ايضا انّ ليس في الإمكان الفصل بين “داعش” والنظام السوري. لا يمكن محاربة “داعش” والسعى في الوقت ذاته الى حماية النظام السوري. التخلص من النظام خطوة اولى على طريق القضاء على “داعش”. لم يكن لـ”داعش” ان ينمو وان يتمدد لولا النظام السوري ولولا مافعلته ايران في سوريا العراق. لم يكن لـ”داعش” ان يسيطر على كلّ هذه المساحة من الأراضي السورية والعراقية لولا النظام السوري ولولا السياسة الإيرانية في هذين البلدين العربيين، اقلّه نظريا.
تدخّلت ايران في سوريا من منطلق مذهبي بحت. لم ترسل “حزب الله” وميليشيات عراقية وافغانية وباكستانية لقتال الشعب السوري، الّا تحت شعارات مذهبية مثل حماية المقامات الشيعية، على رأسها تلك القريبة من دمشق.
في العراق، عملت ايران كلّ شيء من اجل استكمال عمليات تطهير ذات طابع مذهبي، خصوصا في بغداد. جاء بعد ذلك تشكيل “الحشد الشعبي” من اجل قتال السنّة العرب وتهجيرهم من مناطق معيّنة وذلك تحت غطاء الحرب على “داعش”.
ما فعلته ايران بالتواطؤ مع النظام السوري، ادّى الى خلق حواضن لـ”داعش” في كلّ من سوريا والعراق. كان الهدف واضحا كلّ الوضوح في كلّ وقت من الاوقات. كان الهدف محاولة انقاذ النظام السوري بحجة ان الخيار بينه وبين “داعش” وان بشّار الأسد يظلّ افضل من “داعش”. كانت النتيجة انّ المستفيد الأوّل من هذه الممارسات الإيرانية “داعش” ولا احد آخر غير “داعش”.
الملفت ان روسيا، ركّزت، منذ باشرت تدخلها المباشر في سوريا، على الفصائل السورية التي تقاتل النظام. كانت الضربات الموجّهة الى “داعش” قليلة جدا. لم تحدّ من نشاط “داعش” باي شكل، بل زاد هذا النشاط منذ بدء الحملة العسكرية الروسية وشمل بين ما شمل تنفيذ عمليات ارهابية طالت طائرة الركّاب الروسية التي سقطت فوق سيناء وبرج البراجنة في ضاحية بيروت وباريس…
بعد اسقاط الطائرة الروسية، يتبيّن انّ هناك سياسة تركية اكثر هجومية، خصوصا بعد الإنتصار الذي حقّقه رجب طيب اردوغان في الإنتخابات الأخيرة. كان الرهان الإيراني والروسي، كذلك رهان بشّار الأسد، على ان اردوغان سيخرج ضعيفا من هذه الإنتخابات. على روسيا وايران والنظام السوري اخذ العلم بانّ اردوغان المطالب برحيل بشّار الأسد اوّلا اصبح اقوى، بل صار الحاكم بامره في تركيا، وذلك بحسناته وسيئاته الكثيرة.
جاء اسقاط الطائرة الروسية لتذكير كلّ من يعنيه الأمر بأن ليس في الإمكان تجاهل تركيا، العضو في حلف شمال الاطلسي، بعد الآن. اذا كان من تقاسم لسوريا، فان الشمال السوري تركي لا اكثر ولا اقل. حلب مدينة تركية، كذلك المناطق المحيطة بها.
اكّدت ايران وجودها في سوريا عبر خبرائها الذين ارسلتهم لنجدة بشّار الأسد وعبر ميليشياتها المذهبية. كذلك فعلت روسيا عبر طائراتها وجنودها المنتشرين في اللاذقية ومحيطها. تؤكد تركيا وجودها عبر اسقاطها الطائرة الروسية. تؤكّد ايضا انهّا لن تسمح بلعب ورقة اكراد سوريا ضدّها.
في الواقع اثبتت تركيا، باسقاط الطائرة الروسية، انّها ايضا لاعب في سوريا وشريك في تقرير مصيرها، بغض النظر عمّا اذا كانت الإدارة الأميركية متواطئة مع موسكو وطهران ام لا. جرّت انقرة واشنطن في نهاية المطاف الى تغطية عملية اسقاطها للمقاتلة الروسية.
فوق ذلك كلّه، بات على روسيا ان تأخذ في الإعتبار ان لديها ما يزيد على عشرين مليون مسلم في اراضيها وانّ معظم هؤلاء على علاقة ما بتركيا، عرقيا ومذهبيا.
هناك بكلّ بساطة مرحلة جديدة دخلتها الأزمة السورية. خرجت كلّ شياطين العلاقات المتوترة والحروب الورسية ـ التركية. قد يكون عنوان هذه المرحلة كيف سيكون تقسيم سوريا بعد سقوط النظام هذا السقوط المريع الذي اجّله التدخل العسكري الروسي، لكنّه لم يستطع الحؤول دونه؟ ما الحصة التركية في سوريا؟