أن يقول السيد: إن شعب المقاومة أشرف وأطهر الناس أمر، وأن يصفهم، ويحددهم، ويهاجم الفريق السياسي الذي لا يشاطرهم الرؤى ذاتها، إلى الحدود التي أشعرت الجميع بأنه يقابل بين مستويين من الوعي، ومستويين من الأخلاق، أمر آخر تماما، فأشرف الناس كما تحدّث عنهم سماحته: ” يعرفون الدنيا والآخرة، وهم أكثر من حملة سلاح، لأنهم أولا: أهل المعرفة – هكذا بال التعريف – الذين يملكون رؤية واضحة عن الكون والحياة والإنسان، يؤمنون بالله وباليوم الآخر، يعرفون الدنيا حق المعرفة، ويعرفون الآخرة حق المعرفة، ويعرفون علة وجودهم في هذه الحياة، وعلة خلق الله لهم، وبالتالي يفهمون تكليفهم ورسالتهم، وثانيا هم أهل اليقين – مرة أخرى بال التعريف – وهم مع اليقين، أهل الإرادة والعزم، أهل العمل والفعل والإقدام.. ” أما عوائلهم فمثلهم: الأشرف والأطهر، والشعب الذي يدافعون عنه: أشرف بشر وأطهرهم كذلك..
لا يحتاج المرء إلى خزائن المعرفة حتى يخمّن أنّ سماحته لم يعن بالشرفاء الأطهار من المقاومين عموم اللبنانيين، وأنّه لم يقصد أهل لبنان على تنوع فئاتهم ومكوناتهم الدينية والسياسية أيضا، عندما عيّن بعزم وتحديد الحاضنة الاجتماعية التي تنتنج هؤلاء الأطهار، ولم يقصد الشعب اللبناني بطبيعة الحال عندما ذكر أن أولئك المقاومين يدافعون عن أشرف الناس بل عنى جماعة لبنانية جغرافية واحدة لا شريك لها.
فالهجوم الصاعق الذي شنه نصر الله بعد تعيينه أهل الشرف والطهر على الفريق الذي لم يعنه، ولم يقصده، واتهامه قادته بإدارة الظهر للمناورات الإسرائيلية، وبالتقاعس عن إدانتها، لم يسمح بتفسيرين للموضوع، وعلى الرغم من أنّ سماحته لم يتنبّه – وأنى له أن يتنبه – إلى الحواضن الاجتماعية التي عبّر الفريق الذي وقع تحت نيران هجومه العنيف، وما زال يعبّر عن طموحاتها وأولوياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، والذي سماه السيد: فريق السلطة، فإنّ السيد لم يتورع ثانية وربما عاشرة، عن وصفه بمجموعة من اللصوص الجبناء والقتلة، دون أن يرف له جفن تجاه الخصوصية اللبنانية، والفسيفسائية التي تميز الوطن اللبنانيّ وتجذّر فيه أكثر من رؤية للشرف، وغير صورة للطهارة، وتنوّعا مفاهيميا للعزة والكبرياء، ولم يأبه لما يمكن أن يولّد حساسية مثقلة بألوان الاستهجان والألم، يصعب تخيل ما قد تختزنه من احتمالات، وما يمكن أن تطويه من ردود أفعال إزاء هذه الأشكال من التوصيفات والشتائم القاسية، فتخصيص فريق سياسي تمثّله مجموعة دينية أو سياسية واحدة لا شريك لها، بالشرف والطهر على ما يزخر به من عصبوية لا يستطيع اللبنانيون احتمالها، يمكن أن يعزوه المعتدلون أصحاب النوايا الأكثر طيبة إلى الاعتزاز بالأنا أو تضخمها في أسوأ الأحوال، ولكن التجاوز إلى التعبيرات الجارحة والشتائم المهينة للفريق الذي يختلف معها في ساح السياسة والفكر، أمر يصعب هضمه على أحد، ويقسو على المرء تخيل نتائجه وانعكاساته.
والخوض في الطبيعة التي تميّز مجموعة دينية عن غيرها ذو حوافّ ومخاطر، وقراءة الآخر بعينيّ الذات أمر وجيه كلّ مرّة، إلا إذا كانت هذه القراءة تتصل بالفروق الاعتيادية التي تتمايز وفقها هذه المجموعات، فأن يقرأ أحدهم “الآخر” على شاكلة: نحن أشرف الناس وأطهرهم، ومخالفونا ليسوا إلاّ مجموعات لصوص وقتلة، أمر يتعدى الاعتداد المفهوم والمتفق عليه بين أبناء الأديان والملل والنحل، وأبناء التجمعات السياسية والفكرية، إلى الانزلاق نحو خطر إثارة البغضاء بمزاعم احتكار الشرف والطهارة، وصولا إلى توفيز الحساسية الأشد وعورة، وقد يؤدي الاتهام الذي يستبطن الاحتكار الجهوري لمكارم الأخلاق، وفق أضعف التصورات جموحا، إلى تعزيز العكوف على الشخصية، ومفاقمة الانغلاق على الذات وحياضها.
والتستر على الدوام بالخلاف السياسي لإطلاق المكبوت من معاقله الدفينة بحرية وصخب، لم يعد ينطلي على أحد، لأنّ الطبيعة الطائفية الكاملة لبنية حزب الله الشعبية والتنظيمية، لا تفسح مجالا واسعا أمام التفسيرات السياسية الصرف، وإذا استطاع المرء بلأي ومخادعة لا يستهان بحجمها لعقله ووجدانه، فهم اختباء حزب الله في خيمة التنوّع الطائفي والسياسي لقوى المعارضة اللبنانية في مناوراته وتحركاته، فإنّ السؤال الذي فرضه خطاب السيد على هذه القوى بالذات وباغتها هو: كيف تستطيع هذه القوى أن تفسر لأقوامها صيغ تخصيص الشرف والطهر بمجموعة سياسية عسكرية وطائفية دون غيرها من المجموعات الحليفة أو المناوئة؟؟ وكيف يمكن للجنرال ميشال عون الذي تسانده قوة حزب الله ويمثّل إحدى قوى المعارضة اللبنانية، ويميل الحزب إلى اعتباره مرشحه الرئاسي الأفضل، على سبيل المثال، أن يشرح لأنصاره هجوم السيد العنيف على الذين يحترمون القرار1559 من جهة، وتخصيص الشرف والطهر بمن يناوئونه ويعدّونه الشر المستطير، والعدوّ الذي لا يجوز التساهل بشأنه من جهة أخرى، والجنرال من فاخر ذات يوم بأنّه واحد من صنّاع هذا القرار ومؤيديه الأطول باعا؟؟ وبأي عبارات سيتمكن العماد عون من إقناع مؤيديه ومريديه أنّهم ما زالوا كوكبة الأحرار والشرفاء الذين قادوا مسيرة الحرية، بعد أن خصّ السيد الشرف والطهر بمجموعة واحدة لا تضمّ فردا منهم؟ أيملك العماد عون أن يعزّي قومه بالقول مثلا: إنّ السيد كان يقصد أنّ مؤيدي وأنصار حزب الله هم أشرف الناس، ولكنه لم ينف عنكم هذه الصفة، فتأييده قائدكم في معمعة الرئاسة، يدل بالضرورة على إقراره بشرف أصلكم ونبالة محتدكم، ويؤكد أنكم تستحقون المركز الثاني مباشرة بعد سماحته وسماحة أنصاره؟!
أيظل العماد مشغوفا بأحلام وكوابيس قصر بعبدا، ويواصل الاعتقاد أنّ هذا الطموح كفيل ببلسمة جراحات العلمانيين الذين يقودهم على هذا النحو، وأنّ الظفر برئاسة الجمهورية بمقدوره التخفيف من دفين آلام وطنييه وأحراره؟!
ومع ذلك، فإنّ موضوع الشرف والأشرف وصيغ التفضيل القصوى التي استخدمها السيد حسن نصر الله لم تكن الفاصلة الأبرز في خطابه، فالدعوة التي أثارت قدرا من الاستغراب والاستهجان كانت تلك التي عبّر عنها الفصل الأخير من الخطاب، وشكّلت أهم محطّاته وأميزها، وأخطرها أيضا، فقد دعا سماحته الرئيس لحود إلى حسم موضوع التنافس السياسي على مقعد الرئيس، عبر القيام بما ” يمليه عليه ضميره ومسؤوليته الوطنية والقانونية والدستورية وقسمه اليمين الدستوري على حفظ البلاد والعباد، وأن يقدم على خطوة أو مبادرة وطنية إنقاذية لمنع البلاد من الفراغ إن لم يحصل توافق…” ، والغرابة مصدرها أمران متضافران:
الأول: أنّ الدعوة اللافتة تلت شكرا طويلا مفخّم التعبيرات، خصّ به سماحة السيد شخص الرئيس إميل لحود، وأعقبت آيات عرفان أغدق بها على فخامته، وهو أمر لم يعتد حزب الله طوال مسيرته السياسية والعسكرية أن يتكرم به على لبناني، ولم يحظ به مفخّما وعالي النبرة ومطوّلا طوال عمر هذا الحزب أحد خلا شخصي المرشد الإيراني والرئيس السوري، ولعل أصدقاء السيد حسن وخصومه على حدّ سواء يتذكّرون على سبيل المثال لا الحصر، أن خطابه في احتفال حزب الله بمناسبة إعادة بعض الأسرى اللبنانيين قبل ثلاث سنوات إلى وطنهم، تضمّن أطول وأفخم ألوان التقدير والتحية لزعيمي إيران وسوريا، وأقصر وأبسط وأصغر عبارات الشكر للرئيس إميل لحود، ودولة الرئيس سليم الحصّ، بل إنّ ترتيب الرجلين في قائمة المقدرة جهودهم كان رابعا أيضا!
والعجيب المريب هذه المرة أن حزب الله إذ غامر وخرج على طبيعة تعامله مع هذه البروتوكوليات، فإنّه جعل الشكر الذي استهلك من السيد جهدا لغويا واضحا مجرد بطانة لقماش! وتمكن صاحب الكلمات الفخمة ببراعة لا ينكرها عليه أحد، من طيّ بياض التقدير والعرفان، في حمرة مطالب محددة ومفهومة، دعا نصر الله الرئيس لحود إلى تحقيقها، وجعل من التنفيذ اللحوديّ لها أبرز مقتضيات الضمير والوطنية، وشرطا جوهريا للفوز بهذا الحجم الاستثنائي من ألوان التقدير والتحية، ولقد عبر السيد صراحة عن هذه الشرطية، بقوله: ” إنّ ما قمت به وما أنجزته، وما تحمّلته خلال تسع سنوات في سدّة الرئاسة مرهون بتحملك للمسؤولية الوطنية التاريخية في ما تبقّى من أيام رئاستك…”، مكمن الغرابة هنا ليس في حجم الإلحاح فحسب، وإنما في ما طواه هذا الحجم الضخم من تهديد يستحق الكثير من الجهود للظفر بتفسيره على صورته، وفهمه على مثاله، فالشكر والتقدير مؤجلان ومرهونان بأن يختتم الرئيس لحود مسيرته المؤيدة لفريق السيد، بالقيام بخطوات تنفيذية تؤمّن لهذا الفريق أسلحة قانونية ودستورية، تصلح للتلطي وللامتشاق، وتقدّم للحزب عونا حيويا لا غنى عنه، يسعّر بها مقاومته خصومه ” اللصوص والقتلة “، وتمكنه من الإجهاز على مسيرتهم السياسية وحذفهم من المعادلة!
أما وجه الغرابة الثاني في دعوة نصر الله الرئيس إميل لحود إلى التصرف والحسم قبل مغادرته قصر بعبدا، والذي يتوائم مع غرابة ربط التحية بالتنفيذ، والتهديد الذي ينطوي عليه هذا الربط بالضرورة، فيتمثّل في الحثّ على مخالفة الضمير الوطنيّ: بتقديم الأسلحة ذات الغلاف القانوني والدستوري إلى فريق من فريقي الصراع لتمكينه من الحسم، وفي إصدار أوامر تنضح تهديدات أضعاف ما تطويه من شكر مشروط، إلى الرئيس بخرق الدستور مجددا، فسماحة السيد وفخامة الرئيس يدركان باحتراف وحذق أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية اللبنانية لا تسعفه في إعلان إقالة الحكومة، ولا تعطيه حقّ تشكيل غيرها، وتغلّ يديه تماما عن التصرفات الدراماتيكية، وتحصر إقالة الحكومة في نطاق صلاحيات مجلس النواب، الذي أغلقه رئيسه بمفتاح سقط في البحر…
كلا الرجلين يعرفان أنّ الدعوة هذه ليست إلا انقلابا موصوفا على الدستور، واستقواء على فريق، وشطبا لمفهوم الرئاسة اللبنانية القائمة في جوهرها على كونها حكما بين اللبنانيين، لا سلاحا قانونيا ودستوريا بيد فريق سياسي وطائفي مسلح على خصومه.
وهكذا فإنّ ما يتبقى من الخطاب، ويلخّص مطوّلته القاسية، أنّ أشرف الناس يدعون رئيس البلاد إلى تمكينهم من اللصوص والقتلة بغية استئصال شأفتهم وتحطيمهم، وإلاّ فلا شكر ولا تحية ولا تقدير، والأمور لا تقاس بما فعله هذا الرئيس في تلك الأيام الخوالي، وما قدّمه على امتدادها الطويل لحزب الله وأعوانه، فالسيد حسن ورهطه في الحزب، استهلكوا وهضموا أصناف ما قدّمه الرئيس خلال تسع سنوات، ولا يستحقّ ما استهلك وهضم، وتحوّل إلى ذراعين قويتين، ودماء حارّة، وانتصارات إلهية على إسرائيل كرم الشكر ونبل التحية، ما لم يؤدّ ذلك كله إلى انتصار إلهي آخر، ليس على إسرائيل هذه المرة بالطبع، بل على أبناء العمومة، وإلا فإنّ فيض الإنجازات اللحودية وعطايا رئاسته الكريمة، سيبقى منقوصا ورماديا، لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة.
khaledhajbakri@hotmail.com
* كاتب سوري