في شهر أيار الماضي هلّل بعض الإعلام العربي، ومعه عدد من الكتاب غير المعروفين بتمسكهم بالطائفة أو الدين، بالحسناء ريما فقيه، بعد تتويجها ملكة جمال الولايات المتحدة الأميركية. سبب الغبْطة ان ريما فقيه من أصول لبنانية ومسلمة. وبعد ذلك بقليل أعاد الإعلام نفسه الكرة ثانية عندما انتُخبت رهف العبد الله ملكة جمال لبنان، ولنفس السبب الوجيه: انها مسلمة من جنوب لبنان. وعندما حان موعد انتخاب ملكة جمال الكون في آب الماضي طلع علينا إعلام عربي بخبر الصدارة: «ثلاث مسلمات يشتركن في انتخاب ملكة جمال الكون»: الأميركية ريما فقيه، اللبنانية رهف العبد الله والمصرية دنيا حامد. وذهبت بعض الأقلام «الجادة» التي يقتصر اهتمامها على السياسة عادة، إلى القول بأن انتخاب ملكات جمل مسلمات دليل «على حب المسلمين للحياة«…
على الشبكة الالكترونية العربية نالت الجميلات النصيب نفسه: اعتزاز وفخر بما سجّلنه من رفع لرؤوس المسلمين في العالم، ومن التأييد الجارف لريما فقيه، بصفتها الأجمل من بين المسلمتين الأخريين… ينشد هواة الشبكة بجمالها وعذوبتها وأنوثتها. ولم يخلُ الأمر من انقسام بين هواة الشبكة الالكترونية، بين من يرى أسبابا للاعتزاز وبين من يدين هؤلاء الحسناوات المخالفات بصراحة لأدنى قواعد الهندام الإسلامي. لكن هذا الاعتراض لم يقنع غالبية الهواة، وهو ظهر هزيلا أمام الحماسة لربما ولليقين بأن جمالها سوف يتفوق على كل حسناوات العالم… الخ.
وما أجّجَ الحملة على الشبكة، وشحذَ المؤيدين بالمزيد من الحماسة ببطلتهم انها صرحت عشية دخولها المسابقة بأنها «مسلمة ملتزمة» وبأنها سوف تخوض الانتخابات وهي «صائمة» في هذا الشهر الفضيل.
حفلة الانتخاب جرت على وقعْ فقرات عديدة، أوقفتنا اثنتان منها: في الأولى ترتدي الملكات المرشحات اللباس الذي يرمز إلى بلادهن: ريما فقيه لبست ما يجسد النسر الأميركي، ورهف العبد الله لبست فستان الأميرات الشهابيات مع الطرطور المرتفع، فيما المصرية دنيا حامد ارتدت لباسا فرعونيا؛ وذلك عملا بمعايير هئية التحكيم الناخبة، ويقوم التصويت بموجبها، لا على الانتماء إلى دين، بل إلى جنسية.
في فقرة أخرى، ارتدت المتباريات المايوه البيكيني «الجريء» وعرضن مفاتنهن على لجنة التحكيم والجمهور. وقد ذاعت عن كواليس حفل الانتخاب فضيحة، وقوامها ان بعض المتباريات ذهبن إلى أبعد من هذا العرض وخالفن القوانين بالقبول بعرض صدورهن عارية أمام كاميرات مصورين. واحدة من بطلات هذا «التزوير الانتخابي» كانت ريما فقيه، التي سبق وأن سوّقت لنفسها بقوة، وبصور شديدة الإيحاء تشبه وضعيتها تماما تلك التي تعتمدها فنانات الفيديو كليب الرائجات. فعاد إلى سطح الشبكة انقسام هواتها، ومالت الكفة هذه المرة للفريق «المعارض»؛ خاصة وان مؤيدي ريما الفقيه أصيبوا بهزيمة عندما علموا بأنها، ومعها الملكتان «المسلمتان»، خرجت في التصفية الأولى من الانتخابات.
ونحن هنا لسنا بصدد مشاركة الفريق الأخير بالإدانة الأخلاقية، ولا بفحص صدق النوايا الدينية لكل ملكة، ومدى تطابق سلوكها مع المعايير الدينية، الصارمة منها أو»المتسامحة»، وإن كنا نرى في هذه الانتخابات عودة عن قواعد التحرر النسوي الكلاسيكي، الذي تدين له المرشحات بفضل خروجهن إلى العلن. فموضوعنا في مكان آخر: في روح العصر الديني الذي يتبنى الهوية الدينية بصفتها قاعدة فرز البشر ومخاطبتهم والتفاوض أو التحالف أو التحارب معهم.
ومن الرواد العالميين لهذا التوجه، من معتمديه، الولايات المتحدة الأميركية. كسرت قاعدة «الوابس» أي النخبة الحاكمة التي تقتصر على الأبيض الأوروبي البروتستانتي، بانتخابها رئيسا أسود، تجري في عروقه دماء مسلمة. الرئيس الجديد أوباما نفسه، في بداية عهده، لم يشأ مدّ اليد إلى «الشرق الأوسط«، أو إلى «العالم العربي»، أو «الفارسي»، او «التركي»…. بل توجّه إلى ثلاث كتل «إسلامية«: الإسلام العربي ثم الفارسي ثم التركي. خاطبهم بصفتهم يقعون ضمن أطر قائمة بعينها منذ الأزل، حدودها وقاعدتها الدين. قد لا يكون أوباما مسلماً بحق، ولا ممارسا لطقوس والده الكيني المسلم، أو عارفا بتعليمات الدين الإسلامي؛ قد يكون هو نفسه، كما يكون أبناء الخليط، ملتقى للأديان. ولكن ما ان ضعفت شعبيته حتى انقضّ عليه الإعلام الجمهوري والمحافظ بصفته «باراك حسين أوباما»، مع تشديده على «حسين» بغية إبلاغ رسالة واضحة: ان اوباما مرفوض بصفته «مسلما» أو «من جذور اسلامية»، لا بصفته مواطنا أميركيا أخفق في كذا او كيت من المهام الملقاة على عاتقه.
من الطبيعي والحال هذه ان تشتدّ الهوية الدينية بين الأميركيين، بعدما اشتدت في جميع أنحاء العالم، وخصوصا الإسلامي منه. فهذا هو عين منطق العصر. هذا «مسلم… مسيحي… يهودي… بوذي…». أول سؤال، مهما كانت الجنسية، هو عن الدين. الصحافة العربية عاملت الملكات الثلاث بصفتهن «مسلمات». والملكات، خصوصا البارزات من بينهن، أكدن على ذلك. ولم يكن من باب الإرباك عندهن ان تكون لكل واحدة منهن جنسية محددة، يقدمن أنفسهن «رسميا» على أساسها. هذه مفارقة ليست محرجة في الوقت الراهن، لأنها تماشي روح العصر وتنسجم معه، وتتيح لمرتكبه(ها) قدرا من التسويق أو التفاهم أو الانسجام؛ والأمثال من حولنا لا تنضب. (بالمناسبة، لماذا لم يحسبوا ملكة الجمال التركية، من بين «المرشحات المسلمات» إلى عرش الجمال الكوني؟ هل لأنها ليست عربية؟).
لكن هناك شيء أهم من كل ذلك: عندما تقول ريما فقيه انها مسلمة ملتزمة صائمة، علينا تصديقها، ولو من باب الحرص الذي تديره للحفاظ على صورتها وتسويقها. فنحن في النهاية أمام صورة. وليس مطلوبا من الصورة سبر الأعماق أو النوايا. وريما فقيه مثلها مثل نظيرتها، على المقلب الآخر من الانوثة، الجنوب أفريقية، التي اصبحت أميركية، أمينة داوود؛ تلك السيدة التي أمّت صلاة منذ بضع سنوات في كنيسة سان جونز في واشنطن… مثلها مثل أمينة داوود، اذن، تمارس ريما فقيه الإسلام الذي تعرفه، الإسلام الذي كوّنها. الذين رجموا الأولى بالـ»بدعة»، والثانية بمخالفة قواعد الصورة «الثابتة» للمرأة المسلمة، هؤلاء لم يفهموا العصر تماما، وإن كانوا من أصحابه. فريما فقيه نموذج جديد من المسلمة الملتزمة التي تريد ان تعيش في عصرها وتماشيه؛ بأن توائم في ضميرها، بين إسلامها وشبه عريها أمام المصورين. مسلمة جديدة اذا جاز التعبير. مثل المحجبات اللواتي يتبرجن ويلبسن البنطلون الضيّق. أو محجبات أخريات يخضن معارك رجالية في العمل او السياسة، او مسلمات لا يصمن ولا يصلّين؛ كل هذا بحسب سياق حياتهن أو طبائعهن أو تربيتهن أو مهارتهن أو طموحاتهن: اخترعن امرأة جديدة لم تألف بعضها العصور الإسلامية إلا خلف أسوار قصور الحرمْلك.
والخروج من هذه الأسوار لا يقتصر عليهن؛ بل يمتد إلى المثليين والمثليات المسلمين. وآخر تعبيرات هذا الخروج الشريط السينمائي للمخرج الهندي بارفيز شارما «جهاد في سبيل الحب». وفحواه قائمة في تنقل المخرج بين بلدان إسلامية ومقابلة مثليين ملتزمين بدينهم، يحاولون المصالحة بين ميولهم الجنسية وبين انتمائهم وإيمانهم الديني. الخيط السميك الرابط بين أجزاء الفيلم، الإمام الجنوب أفريقي محسن هندربكس، واجتهاده الديني وتأويله الجديد للنص الديني الهادفَين إلى إيجاد الانسجام المطلوب بين عقيدة هؤلاء الدينية وبين مثليتهم.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل