(صورة للملك الحسن الثاني بينما يقبل يده الجنرال محمد اوفقير الذي قاد انقلابا ضده في السبعينات)
لم يكن الحسن الثاني، لاعتبارات كثيرة، ذكرنا بعضها فيما سلف من مقالاتنا المُخصصة لبعض ملامح حكمه، يرضى من الفنانين والرياضيين والسياسيين والمثقفين.. وغيرهم من نُخب المجتمع وأعيانه، بأقل من الركوع بين يديه و”تقبيل يديه الكريمتين”، بتعبير الصحافة الرسمية التي يُسيطر عليها النظام. وهو ما كان يعرفه جيدا، أفراد النخب المذكورين. وثمة الكثير من الإفادات التي تُوضح ذلك أبلغ توضيح، ولنسرد منها بعضها، ومعذرة لذوي الحساسية البالغة من تجليات الوضاعة البشرية، في جانبيها العبودي والاستعبادي.
الأولى روتها السيدة فاطمة أوفقير أرملة الجنرال محمد أوفقير، في كتابها “حدائق الملك” الذي ضمنته تجربتها الحياتية، المخملية، ثم المريرة، هي وأبناؤها، في نعيم بلاط الحسن الثاني، وجحيم سجونه السرية، بعد “انتحار” زوجها (حسب الرواية الرسمية، أو “مقتله” كما أفادت بذلك القرائن، ومنها سترته التي اخترقها الرصاص من الخلف، كما أكدت ذلك زوجته فاطمة) في ختام المحاولة الانقلابية الفاشلة الثانية، التي قادها بعض كبار ضباط الجيش المغربي.
ننقل هنا الفقرات التي تروي الحكاية التي تحن بصدد إحالاتها، بحذافيرها وذلك لطرافتها، وقوة دلالاتها، لنستمع للسيدة فاطمة اوفقير: “.. كنا يومها (أواخر سنوات الستينيات من القرن الماضي) ضمن عشرات المئات من ضيوف الحسن الثاني، حيث كانت المناسبة احتفال بأحد الأعياد الوطنية، والمكان هو قاعة العرش بالقصر الملكي بالرباط، والصف الطويل الدقيق يستوعب كبار شخصيات الدولة، يتوالى أفراده لتقديم التهنئة بالعيد للملك، وبطبيعة الحال مع اللازمة البروتوكولية الإجبارية، المُتمثلة في تقبيل يده، ظهرا على الأقل، وبطنا، أيضا، بالنسبة للمتحمسين، وهو أمر مُحبذ بالنسبة لمن كان يرجو حظوة أو امتيازا أو ما شابه، أو بكل بساطة رضا الملك.. كان الصف يتزحزح بشكل بطيء ورتيب، مشفوعا بحركات الركوع والتقبيل، مما أخذ وقتا طويلا كما هو مُعتاد، غير أنه في الوقت الذي كان هذا المشهد المُمل على وشك الانتهاء، حدث ما غَيَّر من رتابته، فقد استرعى انتباه جميع الحاضرين أن أحد المُهنئين، كان في ذيل الصف الطويل، دخل وهو مُنحَن، منذ ولوجه باب قاعة العرش الفسيحة، وظل على وضعه ذاك حتى مَثُل أمام الملك، حيث لم يكتف بتقبيل ظهر يده، بل قلَّبها كفّا وظهرا أكثر من مرة، ولثمهما بإصرار وحماس ملحوظين، وحينما انتهى، ظل موليا وجهه للملك في نفس حركة الانحناء وهو عائد القهقرى حتى خرج من القاعة الرسمية الطويلة العريضة. لم يُثر ذلك السلوك فقط فضولي، بل اشمئزازي أيضا. سألت زوجي عن هوية الشخص المعني، فقال لي هذه العبارة الساخرة التنبؤية: (إنه الشخص الذي سيحل مكاني على رأس وزارة للداخلية).. لقد كان الشخص إياه هو إدريس البصري..”.
أما الحكاية التالية فرواها لجريدة “لاغازيت دو ماروك” أحد الضباط الانقلابيين، في الطبعة الانقلابية العسكرية الأولى التي وقعت ولم تكتمل، يوم عاشر يوليوز من سنة 1971. يتعلق الأمر بأحمد رامي الملازم السابق في جيش الحسن الثاني، الذي فر هاربا من بطش هذا الأخير، عقب ثبوت ضلوعه في الانقلاب المذكور. قال هذا الرجل، الذي تحول في منفاه المخملي بالسويد، إلى أصولي رث ينتصر للطروحات الإسلامولوجية: “كنت بمثابة الساعد الأيمن للجنرال أوفقير، ألازمه في جل مشاويره المهنية والعائلية، وهو ما أهَّلني لمعرفة الكثير من دقائق حياته المهنية والأسرية. وأتذكر مثلا أنني كنت كثيرا ما أرافقه لإحدى الحانات بالعاصمة الرباط، حيث اعتدنا أخذ كأس معا. وثمة منظر لا أستطيع أن أنساه أبدا، ويتعلق بالوزراء وكبار الشخصيات، في الدولة والمجتمع، الذين كانوا يتعمدون المجيء للحانة المعنية عن قصد، في محاولة للتقرب من الجنرال القوي أوفقير. كانوا يأتونه حيث كنا نجلس نكرع كؤوس الجعة الباردة، صاغرين أذلة، خافضين أجنحتهم، ينطقون أمامنا بالتفاهات، بينما يرقبهم أوفقير بعينيه الصقريتين في اشمئزاز واضح، وكان كلما انصرف أحدهم، يلتفت إلي قائلا: انظر إلى هؤلاء الحثالة، هل يستحقون الديمقراطية؟ إنهم سوف يستحقونها حينما يتركوننا نشرب كأسينا في سلام..”.
هل لديكم تعليق مناسب على ما سلف؟ الرجاء الاحتفاظ به لأنفسكم، فالأمر يخص “قيم” العبودية المُختارة لمجتمع بأسره، وإلا فستجنون على أنفسكم الكثير من الذم والقدح.
لنذهب إذن رأسا إلى الحكاية التالية، وبطلها (نقصد المعنى الحرفي للبطولة) واحد من السياسيين المغاربة القلائل جدا، الذين يستحقون حقا الاحترام، ونعني به المقاوم والمناضل اليساري محمد بنسعيد آيت يدر، الكاتب العام السابق لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي (التي تحولت في إطار عملية اندماج مع ثلاثة تنظيمات يسارية أخرى إلى اسم الحزب اليساري الموحد ثم الحزب الاشتراكي الموحد). فقد حدث أن استقبل الحسن الثاني، في أحد أيام سنة 1992، قادة أحزاب “الكتلة الديمقراطية” التي كانت قد جمعت أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، للتذاكر في شأن اقتراحات تخص الإصلاحات الدستورية. كانت الأحزاب الأربعة قد رفعتها حينها للملك، وبينما انحنى قادة الأحزاب الثلاثة، قليلا أو كثيرا، أمام الملك لتقبيل يده، فوجىء الحسن الثاني ببن سعيد آيت يدر، يكتفي بالشد على يده وهزها، فحسب. فكان أن أضمر الحسن الثاني استياءه، لكنه لم يحتفظ به طويلا. فحينما سأل آيت يدر، في نفس اللقاء، عن رأيه في شأن سياسي كان قيد النقاش، أجاب هذا الأخير بأن الأمر يتطلب اجتماع المكتب السياسي لحزبه و… وقبل أن يُتم الرجل جوابه، قاطعه الحسن الثاني في غضب: “سألناك عن رأيك الشخصي وليس عن آراء أصحابك في الحزب”… وبه كان الحسن الثاني قد نَفَّسَ عن بعض حنقه تجاه الرجل الذي تجرَّأ على عدم الانحناء أمامه، كما يفعل كل الناس في المغرب، ضأل شأنهم أم علا.
تمنح هذه الحكايات الواقعية، تنقيطا لسلم القيم في المجتمع المغربي في أعلى مراتبه، حيث رأينا، مثلا، كيف اهتدى رجل نكرة، ينحدر من وسط اجتماعي فقير، هو إدريس البصري ،إلى فكرته “المُضيئة” في دربه الطويل للوصول على القمة، وتمثلت كما أفادتنا بذلك أرملة الجنرال أوفقير، في تقديم “آيات الولاء والطاعة” (كما كانت تقول وسائل الإعلام الرسمية وما زالت) بذلك الشكل المُغالى فيه. وبالفعل فقد ارتقى الرجل، أي البصري، كل مراتب الدولة المخزنية، من أخمصها (حيث لم يكن سوى مُفتش شرطة عادي) ليصبح أهم وزير في الحكومات المتعاقبة التي عينها الحسن الثاني، على مدى أزيد من ثلاثة عقود، بل إلى مكانة الصدر الأعظم كما رسخت في النظام المخزني العتيق المُتوارث – والمُعضد بـ” لغة” الحديد والنار- في المغرب منذ مئات السنين. وغني عن البيان، أنه إذا كانت “قيمة القيم” عند كبير للقوم على بهذا الشكل والمضمون الرثين، فليس مستغربا أن تكون هي “حقيقة” الحقائق لدى باقي الناس على اختلاف مستوياتهم ومراتبهم. وما باقي الحكايات الأخرى إلا تنويع على نفس نوتة العبودية لدى أفراد النخب المغربية، في حين أن الشذ عن هذه القاعدة (الله يلعن بوها قاعدة) يجر على صاحبها ما وقع للمناضل آيت يدر مع الحسن الثاني، وذلك أضعف العقاب.
إن رقصة المخزن المتمثلة في انتشار صفات الخضوع والخنوع للأقوى انتشرت بين الناس، مسنودة على مرجعياتها السلوكية والثقافية.. المُتوارثة أبا عن جد، في بلد، كانت الرؤوس المقطوعة لمعارضيه، ما زالت تُعلق بأبواب أسوار المدن العتيقة، إلى حدود بداية ثلاثينيات القرن العشرين، وأيضا في مناخ سياسي مطبوع بانكفاء أقطاب المعارضة اليسارية الراديكالية والمعتدلة، عقب صراع شرس صامت، على السلطة.. حيث انتصبت الملكية باعتبارها الخصم والحكم، فكان المطلوب حينها وباستعجال هو “صُنع” الأرضية السياسية والاقتصادية والاجتماعية “المناسبة” لتأبيد الوضع المرغوب فيه.
ويجدر بنا أن نستطرد هنا بشكل واف، للوقوف على بعض التفاصيل الدالة، التي يمر عليها مُؤرخو المخزن المُنتفعون، وجل والمثقفين المغاربة الخائفين، مر اللئام وليس الكرام. فمنذ نيل ذلك الاستقلال المنقوص والمُذل عن فرنسا، حيث كانت الحسابات الخاصة للأطراف السياسية، قد لعبت دورا حاسما في الشكل والمضمون الذين اتخذهما الاستقلال عن فرنسا، وعلى رأس هذه الأطراف النظام الملكي وحزب الاستقلال. حيث يُدلي بعض العارفين ببواطن بداية ليل المغرب الطويل، عقب رحيل الاستعمار الفرنسي المباشر، شذرات حقائق، تُشكل لمن يصطبر على تقنية الربط والاستنتاج، فرصة ثمينة لمعرفة الركائز الطارئة، التي بُنيت عليها الجغرافيا السياسية للمغرب، ما بعد الاستقلال. نجد من بين هؤلاء العارفين القلائل الأستاذ عبد الكريم الفيلالي، الذي كان خلال الفترة الوجيزة لحكم محمد الخامس، أحد السواعد الموثوق فيها لدى هذا الأخير، وعضواً متميزاً في أول برلمان مغربي انتُخب سنة 1963. والرجل أيضا مُثقف نزيه، معروف عنه حرصه الدقيق على توثيق لحظات التاريخ المغربي المعاصر شظية شظية، في مغرب البدايات ذاك حين كان الصراع على أشده – كما يُفيدنا الأستاذ عبد الكريم الفيلالي – بين الأطراف المُتصارعة على السلطة في مغرب هش.. إلى غاية، حسم الأمور في اتجاه، جعل المجتمع خاضعا لمشيئة الماسكين بزمام السلطة، وعلى رأسهم الملك.
لنستمع للرجل وهو يُعدد بعض الوقائع، من حلال حوار حديث أجرته معه أسبوعية الأيام في عددها رقم282 الصادر بتاريخ 26 مايو 2007، تتصل بما نحن بصدده عن مغرب البدايات: “.. والخطير في الاجتماع (يقصد اجتماع اتفاق إيكس ليبان بين الفرنسيين وبعض قادة ما سُمي بالحركة الوطنية في شهر غشت سنة 1955 ) هو ما تم الاتفاق عليه، وتلخص في خمس نقط: رحيل بنعرفة، وتكوين مجلس الوصاية، وعودة محمد الخامس إلى فرنسا أو المغرب، شريطة ابتعاده عن السياسة بشكل نهائي، ثم تكوين حكومة من الأحزاب الفاعلة وإرجاع الحق للمغاربة لاختيار مصيرهم بأنفسهم بين الجمهورية أو الملكية، بعد إجراء الانتخابات..”.
الأستاذ عبد الكريم الفيلالي لا يُطلق الكلام على عواهنة، فهو رجل دولة سابق من الطراز الرفيع، كما سبقت الإشارة، وقد ألف وأصدر مُؤخرا، سِفرا ضخما يقع في إثنى عشر مجلدا تحث عنوان “التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير” توسل فيه منهجية علمية دقيقة، أو بتعبيره هو نفسه فـ” التاريخ يعني بالنسبة لي ضرورة الاعتماد على منهجية التوثيق وليس على السماع والتداول الشفهي.. “. لنستمع إذن لهذا الرجل المغربي الاستثنائي وهو يُؤكد مثلا في المرجع الصحفي السابق ذكره: “.. لقد كان لمحمد الخامس برنامج بدأه من منطقة آيت خليفة ناحية الغرب، حيث أراد إعادة توزيع الأراضي التي استولى عليها الفرنسيون، والتي أصبحت تقدر بمليون و 70 ألف هكتار. وكان محمد الخامس يرغب في توزيعها على أصحابها، حيث شكل لجنة كُنتُ أحد أعضائها لدراسة الأراضي التي استولى عليها الاستعمار. لكن هذه العملية توقفت لأن محمد الخامس كانت تبدو عليه ملامح الإنهاك والتعب بسبب السنوات التي قضاها بالمنفى..” إلى أن يصل الأستاذ الفيلالي إلى بيت القصيد التالي: “..إنني لا زلت أتوفر على السبحة الخاصة بمحمد الخامس التي كان قد سلمها إلى شخص يُدعى صالح الكوزيني قبل أن يدخل قاعة العملية، وقد فعل ذلك اعتقادا منه أن العملية الجراحية لن تدوم أكثر من نصف ساعة، لكنها دامت أكثر من ذلك. لقد توفي بعدها محمد الخامس، مثلما قُضي أمر الكوزيني بعد يومين من وفاة محمد الخامس” ثم ليسأله الصحافي الذي أجرى الحوار ” هل تمت تصفية صالح الكوزيني؟ “، ليجيب “لكم أن تفهموا ما شئتم”.
هل ارتفع منسوب الفضول المشوب بالترقب في نفوسكم؟ الواقع أن السيد الفيلالي لن يُخيب ظنونكم وهاكم المزيد. يقول في مكان آخر من نفس المرجع السابق ذكره: “أتذكر أنه عندما تقدمت بهذا المشروع – يقصد مشروع تشكيل لجنة للتفكير في إنشاء خزانة ملكية من الوثائق الثمينة التي كان يُستعمل بعضها في تسخين أفران القصور – بالبرلمان، اتصل بي الحسن الثاني وقال لي أن ما أقدمت عليه يهدف إلى تأليب الرأي العام، فقلت له إنني أردت أن أساعد في إصلاح المغرب، فرد عليَّ قائلا: لهلا يصلحو”.
لنوقف هذا الاستطراد المديد ولنُمعن النظر في هذه المعطيات التاريخية، ألا نفهم منها أن الملك الراحل كان كل همه منصرفا لـ”بناء” دولة ومجتمع مُتمحورين حول شخصه؟ نعتقد بذلك. فالقرائن كثيرة، تُؤكد انه سعى بكل ما أوتي من جهد ووسائل، لجعل سلطته فوق كل السلط، وفي نفس الوقت الاستحواذ على مصادر الثروة في البلاد (سنتناول هذه النقطة بكثير من التفصيل في مقال قادم) ومحاربة أي نوايا إصلاحية ولو اقتصرت على “خلق خلية للتفكير في إنشاء مكتبة ملكية للحفاظ على الوثائق النادرة التي تُؤرخ للمغرب مُفضلا أن يستمر استعمالها في تسخين أفران القصور).
مزيد من تفاصيل هذا العجب العجاب المُسمى “الحياة المغربية” في كتابات قادمة.
mustapha-rohane@hotmail.fr
* الرباط
حينما قال الحسن الثاني: لا أَصلَحَ الله المغرب
إنه مغرب الملكية و إنها ملكية المغرب وهي خير ألف مرة من الملكيات الجمهورية العربية