يبدأ فاضل الربيعي في كتابه الجديد «كبش المحرقة – نموذج لمجتمع القوميين العرب، دار الفرقد، 2007) من «الأنشودة الرعوية» الاستضحائية الهتّافة «بالروح بالدم نفديك يا زعيم». فهل هي أنشودة الجماهير العربية المطربة أم مرثية ومناحة حريتها المكربة؟ مهما تكن فتن الكاتب يكشف أن النظام التضحوي القبلي القديم انقلب رأسا على عقب على يد الحزب العربي القومي، فبعد أن كان الفرد يقدم فداء للجماعة للحيلولة بينها وبين العنف، أمست الجماعة كلها تقدم فداء للزعيم الفرد! النتيجة كارثية: فقر، تخلف، استعباد، أوبئة، خزي، وهزائم يطلق عليها الإعلام الطغياني المهرج انتصارات، وفي بداية انطلاق الوعي القومي (الشقي) وتبلوراته الطفولية الأولى، قبل ان تتعرض لكل هذا التشوه، بالرغم من عدم وجود فكر سياسي وقتها، كان يطلق عليها اسم نكسة أو نكبة.
فكرة الكتاب المركزية أنّ الجماعة السياسية العربية (الحزب) في البيئة العربية، شديدة الشبه بجماعة مؤمنين، وتمارس ما يشبه شعائرها، كما أنها تقيم شعائر التضحية القديمة نفسها، التي لا تزال تضرب جذورها في الأرض وتورق أغصانها و»أشواكها» في السماء. وان العلاقة التعاقدية بين الفرد والحزب هي علاقة تضحوية. يورد الباحث الاناسي والتراثي العراقي أمثلة طريفة (توجع الخواصر من الضحك، لكنه ضحك كالبكا) من تجارب الياس مرقص وجورج حبش وميشيل كيلو وطلائع القوميين والماركسيين العرب؛ تروي إحداها على لسان جورج حبش أن المتحزب القومي العربي كان يخجل من رؤية فيلم أو خطبة امرأة من دون «فتوى» من القيادة العامة للحزب! فقد أعادت تلك الأحزاب المنكوبة بوعيها الوثني إنتاج «الفقه الافنائي» بلبوس معاصر. ويكشف أن الفردية معدومة في الفكر القومي العربي، وينتهي إلى خلاصة ملفتة: الديكتاتور يظهر على المسرح في اللحظة التي تبلغ فيها الجماعة نقطة اللاعودة في علاقتها مع الفرد. في الفيزياء يسمون تلك النقطة نقطة انهيار العازلية. ويقول ان التضحية أحيانا تفضي إلى نتائج عكسية. الامثلة: الشيشكلي ونوري السعيد وابنه عبد الإله الذي قتل طفلا فجرّ الندم على الجماهير العراقية التي سمى كثيرون اولادهم على اسمه؟ ويغيب صدام حسين الذي يبدو أن الكتاب طبع بعد إعدامه. ويقول ان القضية «التي هي فلسطين» قد تصبح موضوعا للتجارة السياسية وشراء الشرعية ما دامت مفقودة جماهيريا وقانونيا، والحزب نفسه انتهى وحل محله الفرد الزعيم. ويورد أمثلة على التضحية بالحيوان (الكبش في التراث العربي الإسلامي الذي يتضمن الإسرائيليات) لتحويل العنف وخداعه.
ويستشهد بحكاية من «الف ليلة وليلة» (أعاد إنتاجها العراقي يوسف الصائغ في مسرحية سماها بالباب) كسبيل للخلاص من النظام التضحوي. تروي الحكاية أن شعائر مدينة الحكاية كانت تقضي بدفن الزوج حيا إذا ما توفيت زوجته. ويكون الحل بأن يجتمع في المدفن زوج توفيت زوجته وزوجة توفي زوجها، فتنشأ بينهما قصة حب ويتمكنان من الفرار من المقبرة بعد العثور على ضوء في آخر النفق.
ويقول إنّ مشكلة الحزب العربي في أن مدفن ضحاياه سري ومن النادر الخروج من المدفن. كما أن التعاليم الصارمة والتخوين تمنع المتحزب العربي القومي من التفكير في حل. هو إما أضحية على مذبح القضية أو قاتل انقلابي مغتال.
مشكلة الحزب العربي القومي الثانية بعد أن صار مسلحا وحاكما هي في مأزق الغريب، الأعزل غريب، والمسلح بالسلاح أو المال وطني. المتحزب وطني وغير الحزبي «غريب» و «آخر». ويرى الكاتب الفاضل فاضل انّ ثقافة الحزب هي على خلاف ثقافة المجتمع التكافلية، فقد فرضت شكلا سلبيا من التضامن يتضمن الخضوع، أنّ الشخص الذي يهرب من المجتمع إلى الحزب، هو «عضو» مازوخي هارب من الشعور بالعزلة، يبحث عن مرشد وحام، وان قيمته تنعدم بغياب الحزب، وعليه تنحدر قيمته إلى عبد وترتفع قيمة الأمين العام الأب إلى اله.
ويخلص إلى أن الشيعة (العراقية والإيرانية) تميل إلى التضامن وتهرب من السلطة المرتبطة بالدنس، الشيعي يميل إلى إن يكون أضحية دائما (يضرب أمثلة من تجربة مجاهدي خلق الحسينية ويمثل لدنس السلطة برواية الرجع البعيد التي يرتكب فيها بعثي سفاح المحارم قبل تولي السلطة، طبعاً الأوديب البعثي لا يتوب أو يفقأ عينيه بل يستمرىء متعتة السلطة). لكن كان هذا قبل إعدام صدام، الذي غدا مثالا ممتازا عن الأضحية الخطأ. أو التضحية بشكل غير صحيح، حسب «نظرية» التضحية والقربان «الخلاصية».
الحل الذي تقترحه حكاية «ألف ليلة وليلة»، بالعثور على نفق في المدفن، حلّ فردي، والزوجان المحكومان بالموت، بعثا حيين وأنقذا من الوأد لأنّ «كل غريب للغريب نسيب» كما يقول الغريب امرؤ القيس. فهما لم يكسرا عرف دفن الأحياء في مدينة الحكاية. لكن هل المطلوب من الحكايات ان تقدم «حلا ثوريا»؟ السنا جميعا نهرب من مدافن الأقطار العربية إلى أوروبا تاركين السلطات تمارس وأد المجتمعات بالجملة. اعتقد انه لا توجد إشارة على فك رمزية الأضحية والقربان، فهي ليست مسرحا، وشعيرة أصلية في التطهير المجتمعي القبلي، وخداع العنف كما يقول الانثروبولوجيون الكرام. كما انها ليست عرفا نتوارثه دون معرفة أسبابه أو كنهه. اعتقد أن رمزية القربان الحيواني تكمن في: اسكات الجوع وتقديم الخدمات الأساسية للمجتمع، أما القربان البشري فيعني القصاص أو بل الاحرى تحقيق العدالة. وعليه، التضحية القربانية التي لا تحقق عدالة خاطئة وعكسية ومهدورة. والحيوان الذي يستبدل بالأضحية، خاطئة أو صائبة، سلوى وعزاء… إلى حين. الغرب استبدل من زمان القربان الدموي بالحبر (فضيحة كلينتون الذي رتع في جنة لوينسكي)؟ اما القرابين التي تنتحر بطلقتين، او تهرب فهي قرابين مزورة، منتهية الصلاحية ( نشير الى المثال الذي قدمه المرحوم محمد تركي الربيعو في هذه الصفحات).
في الكتاب امثلة ممتازة عن مأساة الاجتماع السياسي العربي، وفقه الأضحية، ومراهقة الأحزاب العربية التي لم تشب عن الطوق، وأساطير شهوة السلطة «الكاليغولية» ووقائع اخرى يقوم الكاتب بتفسير رمزيتها وتأويلها. اعتقد أن الكاتب لم يوفق في صياغة العنوان الثاني، وربما كانت إضافة «المحرقة» إلى الكبش في العنوان الأول تزوج غريبين من «مدافن» مختلفة؟
(الحياة)