بنوع من الخَفَر وبالقليل من الحماسة، يزداد عدد أصحاب الفكر «المقاوم» الداعين الى «ضرورة مراجعة» فكرهم؛ ولئن كانت اية مراجعة فكرية من ضرورات هذا الوقت بالذات، اذ لا طرف في غنى عنها، غير ان ما يصيب الفكر «المقاوم» الآن يفرض نفسه بأقوى مما يصيب الفكر الآخر، غير «المقاوم»، أو «المعتدل»، أو «الليبرالي»… سمّه ما شئت. فدوام الحملة الدموية للنظام السوري ضد شعبه يحرج من آمن بالفكر «المقاوم» وبقي في آن معا متطلعا الى شيء من حرية إرادة الشعب (هم يفضلون «حرية الشعوب» على «حرية الشعب»). هذا النوع تحديدا من الاشخاص تجده وسط حاملي القلم، المتعاطين بالمعاني والأقوال. ولمتتبع كتاباتهم ان يشهد توزّع عقلهم بين قطبيْ تفكير: من جهة هم مع النظام «المقاوم»، ولكنهم من جهة اخرى هم ضد نهجه الدموي؛ والحاح الحدث يوميا، وفظاعات النظام، يكرر هذا التوزّع وينزل الحاجة الى التعبير عنه. وهو توزّع لم يصل الى حدّ التمزّق. فالذين تجشموا عناء «المراجعة» الفكرية لم يراجعوا فعلا. فقط عبّروا عن قلقهم الفكري ولم يتجاوزوا حدّ الانزعاج أو الغيظ.
ربما الوقت مبكر، أو شديد الاضطراب والتشوّش… لهم عذرهم. فالمراجعة الفكرية ليست فعلا بسيطا. انها جلدٌ ينسلخ عن صاحبه. وهي، الى الوقت، تحتاج مراجعة المفاهيم نفسها التي تستند عليها هذه المراجعة. وعلى رأس هذه المفاهيم، مفهوم «المقاومة» الصانع لهوية المراجعين؛ وهو مفهوم قوي، متجذر في أصول السياسة وبديهياتها، وغالبا، في مقدساتها. لذلك فهي تتطلّب أكثر من مجرّد تكلّف أو تمرين آلي للذهن.
ما هي «المقاومة» في نظر وفي ممارسات «المقاومين»؟
انها أولا الأولوية على ما عداها من طروحات او تصورات أو برامج. اولوية الحرب على اميركا واسرائيل. كل حزب، كل نظام، كل شخصية، كل اعلامي «ينحاز» للـ»مقاومة» يكون معفى من كل المترتبات السياسية او المسلكية او البرنامجية الاخرى. المهم «مقاومة». وبأية وسيلة؟ هنا تفترق الطرق: هناك انظمة «مقاومة»، تعتمد سياسة الأذرع الاقليمية، أي التزامها «مقاومة» تقع خارج اراضيها. لذلك لا تعرف جيوش هذه الأنظمة منذ أربعة عقود طعم المواجهة العسكرية. فيما الطريقة الثانية، حرب «مسلحة شعبية» تخوضها احزاب لحساب هذه الأنظمة، أو حساب حلفائها، كلٌ في زمنه؛ هي تلك المجموعات الميليشياوية التي تشكلت في عهد «الحركة الوطنية اللبنانية»، اليسارية، العلمانية (الحليف السوفياتي)، ومن ثم عهد «حزب الله»، الاسلامي (الحليف الايراني).
السؤال الذي تطرحه هذه الأولوية يتعلق بتناغمها مع معطيات الوقائع «الاستراتيجية» على الارض: تفترض هذه الأولوية، أو تريدنا ان نفترض، ان كل الشهوات التوسعية أو التائقة الى السيطرة علينا، تقتصر على اميركا واسرائيل. وان الخطر الوحيد الذي يهددنا والذي علينا بذل كل شيء لـ»مقاومته» هو الخطر «الاستراتيجي». لا خطر الا الخطر «الاستراتيجي». بناء على هذه الصيغة، علينا من جهة حصر دائرة الاخطار الى «العدوَين التاريخيَين»، ولكن علينا من جهة اخرى ايضا توسيع معنى «الاستراتيجي» الى كل متون حياتنا السياسية وغير السياسية.
لماذا هم هكذا هؤلاء الاعداء؟ تسأل. فيأتيك جواب «المصالح»: من ان مصلحتهم تقتضي الهيمنة والتوسع. هذا الرسم الفقير للوحة العالم، بكل ما يموج على سطحه وفي بواطنه من تعقيدات ومتغيرات وتبدلات وهبوط وصعود، صار الآن قديما. ومع ذلك تصمد الاولويات، كما صمدت أولوية «محاربة الاستعمار البريطاني» في برنامج «حزب التحرير الاسلامي»، منذ عشرينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا. انه الصمود الرائع للأفكار بوجه تبدّلات الواقع الممقوتة.
اما الوسيلة، «الكفاح المسلح»، والتي يتصدى «المقاومون» بواسطتها لأميركا واسرائيل، فلا تشكو من تضارب اقل: الانظمة استفادت منها، خصوصا الانتصارات «الالهية الاستراتجية التاريخية». ولكن ليس بمعنى استعادة اراض او حقوق، بل بمعنى القرينة على قوة أذرع النظام المقاول الخارجية، والمثبّتة لديمومته داخليا؛ فيما المنظمات، «حزب الله» بصورة خاصة، الذي قام بالمهمة على أكمل وجه، حصدَ «انتصاره» هذا بتحكّمه بكل لبنان، دون مسؤولية حكمه.
لكن الذي يضعف فكرة المقاومة ليس انعدام منطقها السياسي وحده؛ انما قوة التاريخ، الذي لا يغرف الا من حساباته. التاريخ الراهن نقصد، والذي زلزل العالم العربي منذ بداية هذا العام ، وما زال. ومن اكثر ما اصابه هذا الزلزال هو موضوع الأولويات.
بدل «المقاومة» التي استولت على الألباب، بالمزايدة والاعلام وشبكات العلاقات، واللوبيات والتضاميات العابرة للحدود في معركتها ضد اميركا واسرائيل، والتي هبطت الى جميع مراتب الاهتراء المترتبة عن الزمن… حلّت «الثورة» مكانها؛ وهي ديناميكية جديدة، ندية، ذات أهداف اخرى، تواجه خطرا آخر، عدوا آخر، «أساسيا» و»مركزيا»، يستحق إسقاطه الاستشهاد. وهذا العدو ليس اميركا ولا اسرائيل، بل هو نظام سرق وقتل واستبد: تونسي، مصري، يمني، بحريني، يميني….. كل هذه الانظمة التي تعاملت مع العدوين، لا اسف عليها في فكر المقاومة، التي لم تنظر الى ثورتي تونس ومصر الا بنظرة الكيدية الاستراتيجية: نظام معاد للـ»مقاومة» سقط….
ولكن ما ان وصلت الى سوريا، حتى ارتدّت الاسهم الى نفسها وألحّت الحاجة الى المراجعة: بين اولويتين، المقاومة ضد اميركا واسرائيل أوالثورة ضد نظام قاتل فاشل. هؤلاء المراجعون يحارون الآن، وسوف يبقون طويلا على حيرتهم هذه. ليس الموضوع هنا ايهما يختارون، مقاومة ام ثورة، انما عن المعنى العميق للمقاومة، الذي افسده الدهر، وهو قادر على كل شيء.
وان يكون النظام السوري بالذات هو مختبر هذا الخيار يفصح أكثر وأكثر عن هذه المعاني: المفاجأة الكبيرة التي اصابت البيئة المقاومة هي حدوث ثورة ضد نظام «هو محل تقدير شعبيا» ومواقفه من اميركا واسرائيل «تلامس الوجدان الشعبي السوري والعربي». فهو نظام رفض على الدوام «التدخلات الخارجية» و»سياسة خارجية مستقلة عن السياسة الاميركية» الخ. أن يكون فعلا هو هكذا، فان الوقائع كلها تنفيها. ولكن ما لنا وكل الوقائع المناقضة للتوجه المعلن. ما يهم الآن هو الاعتقاد لدى المراجعين بأن النظام السوري كان قد حصل على تفويض شعبه في سياسته الخارجية هذه، وان الشعب رسمها ورفعها الى أعلى السلطات لتنفذها. هل كان السوريون فعلا موافقون على هذه السياسة؟ هل كانت الاولوية لديهم هي تلك المشهدية «المقاومة» وأدبياتها؟ هل كان الشعب السوري «راضيا» عنها، لكيلا نقول متحمسا لها؟ هل كانت سياقات حياته تجعله يتوسلها حقيقةً؟ الجواب الذي اعطته ثورته على هذه التساؤلات هو «كلا» كبيرة. كانت «كلا» نائمة، خائفة، ومفعولها الرجعي يمتد الى اربعين عاما. والآن، الآن فقط تبيّن انها أُسكتت بالسجون والاعتقالات، والقتل، بالدعاية، بالعبادة الشخصية… وبالأذرع «المقاومة» المجاورة: كانت «المقاومة» في خدمة «المقاومين» وحدهم، لا القضية المسكينة. وهذه نقطة مقتلها.
حول مراجعة بعض «المقاومين» لمعاني فكرهم
النظام السوري نظام يهودي مكار..يعمل دائما على إضعاف عدوه بتشتيته وتفريقه قبل أن ينقض عليه..هو يريد الإيقاع بين الشعب السوري و حلفائه من أتراك و أكراد وعرب وعجم ولا يتوانى عن الإساءه وتلويث سمعة المعارضه واتهامها بالعمالة والضعف وبث الفرقه بين أطيافها…لذلك يا اخوتي وجب التحذير والتنبيه لعدم الانجرار الى ما يصبو إليه النظام والبقاء يدا واحده مع بعضنا ومع جميع الحلفاء في وجه هذا النظام الغادر..؟؟