الجدل المتعلق بتحول الشيعي إلى المذهب السني أو تحول السني إلى المذهب الشيعي، وما يرافق ذلك من حرب بيانات طائفية بين أنصار كل مذهب، حيث يعتقد كل طرف أن مذهبه وصيّ على الحقيقة الدينية وأنه الناطق الوحيد باسمه، إن ذلك الجدل ينتهي في أحيان كثيرة إلى تبادل تهم التكفير والإلغاء، وقد ينتهي إلى “إسكات” الجدل لأسباب تتعلق بالمصالح الدنيوية لكل طرف، مصالح تستند عادة إلى شعارات سياسية اجتماعية لا علاقة لها بالدين، مثل شعار “الوحدة الإسلامية” المهلهل والبعيد عن الواقع وعن التاريخ. فلو تمعنّا في الأدبيات الدينية والنصوص التاريخية للشيعة والسنة معاً سنلحظ تمييزا بين من يمتلك الحقيقة الدينية المطلقة وبين الآخر الذي لا يمت بصلة إلى تلك الحقيقة، بمعنى أن هناك إلغاء لطرف ديني ضد طرف ديني آخر، ويقوم ذلك الإلغاء على مبدأ امتلاك الحق الديني مقابل عدم امتلاك الآخر لهذا الحق.
وعلى أن تحوّل السني إلى شيعي أو الشيعي إلى سني له محاذيره الخطيرة في المجتمعات العربية والمسلمة، لكننا لا نسمع بمثل تلك المحاذير في المجتمعات الغربية، سواء كان هناك “تبشير” إسلامي ضد المسيحيين، أو كان في صور أخرى. ففي الغرب يدخل الآلاف إلى الإسلام السني أو الشيعي دون أن تتعرض مجتمعاته لخطر الطائفية المجنونة أو لتهديد النزاع الدموي. إنها الليبرالية والحرية الفردية التي رفضت مبدأ الامتلاك المطلق للحقيقة، الدينية وغير الدينية، وطردت ثقافة “الفرقة الناجية” وأسست للتسامح والتعايش، وهو ما أوصل الغربيين إلى هذه الحالة الإنسانية.
إن “التبشير” السني ضد الشيعة أو الشيعي ضد السنة لا يمكن له أن ينتمي إلى الإسلام المتحرر، هو ينتمي إلى الدين الذي أدخلت عليه “الزوائد” السياسية والاجتماعية غصبا عبر التاريخ، دين يقف في الضد من بناء علاقة فطرية روحية مع الله، بل ينتمي إلى مساعي استغلال الظروف والمصالح في الدنيا لتثبيت الهوية المذهبية للمسلم وإلغاء الآخر الرافض لهويته، وهو ما نرى انعكاساته في صراع الهوية المرتبط بالمصالح الدنيوية – ومن ضمنها المصالح السياسية السلطوية – بين جماعات التشدد السني والتشدد الشيعي، أو كما يسميه البعض بين السلفية السنية والسلفية الشيعية. فهو صراع يستند إلى قضايا وأحداث سياسية تاريخية دينية، وباتت نتائجه تؤثر بشكل سلبي على أساس الدين، أي الإيمان، وتهدد بتفكك المجتمع وتؤثر سلبا على المصالح الوطنية والقومية. فالدفاع عن تلك القضايا والأحداث التاريخية – وليس عن التديّن – أصبح يحظى بأولوية عند أصحاب “التبشير” ولو أدى ذلك إلى زعزعة الأمن والسلم الاجتماعيين. فتلك القضايا تعكس فحسب ما جرى من صراع تاريخي اجتماعي وسلطوي كان يجب ألاّ يقحم الدين فيه. فلا همّ للمنتمين إلى ضفتي “التبشير” السنية والشيعية إلا الدفاع أو الهجوم على القضايا التي تحفظ هويتهم الدينية التاريخية ولو أدى الأمر بهم إلى استخدام أساليب غير أخلاقية. فإذا ما واصل “التبشير” في الظهور على هذه الشاكلة من دون سعي لإعادة إحياء نهج التديّن المعبّر عن العلاقة الفطرية بين الإنسان وبين باريه ورفض الزوائد التي أدخلت على الدين عبر التاريخ، فإن أكثر المتضررين من ذلك هو الدين نفسه ثم المواطن وأمن الوطن وسلامة المجتمع المحلي.
إن “التبشير” الشيعي أو السني قائم على التديّن المصلحي والمادي، الذي يعبّر في أبرز تجلياته عن الطائفية البغيضة، إذ لا هم لهذا النوع من التديّن إلا الاستناد إلى التاريخ للدفاع عن وجود أفراده والذود عن هويتهم والسعي لإلغاء الهويات الدينية المذهبية المنافسة التي عادة ما يسمى أصحابها بالخوارج الجدد أو المرتدين الجدد. فيما قضية الإيمان والعلاقة الفطرية مع الله تأتي في مرحلة لاحقة، بل قد لا تأتي، إذ يكفي لهؤلاء الدفاع عن الهوية الدينية، وهو دفاع يجلب لهم “الحسنات” للحصول على ضمانات تعينهم في الآخرة، حيث تتحول العلاقة الإيمانية مع الله من علاقة فطرية قلبية إلى علاقة مادية مصلحية. إن بناء علاقة إيمانية متميزة في المجتمع يحتاج إلى نشر فهم للدين تصب مخرجاته في هذا الإطار، فهم يخدم الجانب القيمي والأخلاقي والتحرري للإنسان، في حين أن ما نراه ونتلمسه من تصرفات وسلوكيات أنصار مدرسة “التبشير” السنية والشيعية هو عكس ذلك. فالخوض في المسائل الروحية بعيدا عن تداخلها بالمسائل السياسية والاجتماعية، أو بالمصالح، من شأنه ألا يهدد الإيمان الفطري بشائبة مادية تعرقل طريقه.
ويعتقد العديد من المراقبين أن الصراعات السياسية والاجتماعية بين الفرقاء الإسلاميين واستخدام العنف وممارسة الإلغاء المستند إلى التفسير الديني ضد الآخر، تنتشر في العديد من المجتمعات العربية والمسلمة، ويرجع أصلها إلى ممارسات الحركات الدينية السياسية على أرض الواقع، حيث لا تستطع قبول الآخر المختلف عقديا وسياسيا وبالتالي تفشل في جعل التعايش جزءا من ثقافتها. غير أن المشكلة لا تكمن في هذا الأساس، فهو نتيجة لأساس آخر ولمشكلة أكبر، متمثلة في أن كل طرف ديني يعتقد بأن رؤاه السياسية والاجتماعية، المرتبطة ارتباطا وثيقا بالتفسير الديني العقائدي، هي رؤى مطلقة فوق بشرية وغير قابلة للتراجع إلا وفق شروط ضيقة جدا. وإذا لم تعالج قضية التفسير الديني المطلق وفوق البشري معالجة كلامية جذرية تتفق مع قيم الحداثة ويتم تحويله إلى آخر بشري ونسبي، شأنه شأن جميع التفاسير المنضوية في إطار المعارف البشرية، فإننا لا نستطيع معالجة المشكلة المزمنة في خطاب “التبشير” المتمثلة في رفض التعددية وعدم قبول التعايش والتسامح. إن مدارس التفسير الديني، السنية منها والشيعية، تجادل على أساس أن ما صدر من تفسيرٍ للدين والشريعة في زمن الأئمة الأربعة لدى السنة والإثني عشر لدى الشيعة وفق منهجية تفسير محددة، هو معرفة دينية نهائية، وأن ما يلحق ذلك من فهم لابد أن يتوافق مع ما جاء به الأئمة بحيث لا يخرج عن إطار معرفتهم الدينية أو منهجيتهم التفسيرية. وفق هذه المحصلة تعتبر المعرفة الدينية الصادرة عن مدارس التفسير الشيعية والسنية متصلة اتصالا وثيقا بأفراد عاشوا في فترة زمنية معينة، بحيث تتوافق رؤاهم مع المعطيات الاجتماعية لتلك الفترة، كما إنها معرفة منتهية وصادرة وفق منهجية تفسير محددة، إضافة إلى أنها غير قابلة للتغيير إلا وفق المعايير التاريخية في التفسير. أي أن المعرفة الدينية، وما يتعلق بها من منهجية للتفسير، أصبحت ثابتة جامدة وغير قابلة للتغيير، لذا لا تستطيع أن تتعايش مع متغيرات الحياة.
إن إيمان تياري “التبشير” السني والشيعي بأن ما تأسس من فهم في زمن الأئمة وما لحق ذلك من تفسير لرجال الدين اعتمد على منهجية هؤلاء الأئمة ووصفهما له بأنه معرفة نهائية، هو من الأسباب الرئيسية التي منعت هذين التيارين من قبول مبدأ تعدد التفاسير وتنوع الفهم الديني وسطوة الثقافة القائمة على امتلاك الحقيقة الدينية المطلقة، ما أدى بالتالي إلى بروز مسوغات التكفير والإلغاء. ومن القضايا التي دأب خطاب “التبشير” على إثارتها فيما يتعلق بأمور العقيدة والإيمان، وهوّل من مخاطر الخروج على فهمه لهما، وصفه لكل من ينتقد الثقافة الدينية التاريخية والعادات والتقاليد النابعة عنها، أي تاريخ الدين وسننه السياسية والاقتصادية الاجتماعية، بأنه خارج عن الدين. فحسب هذا الخطاب، فإن الإنسان المتدين المعتقِد بالدين الإسلامي، يجب ألا يقطع علاقته بتاريخ الدين.
إن من يقطع علاقته بتاريخ الدين، هو في الواقع لم يقطع علاقته بالله ولا بالوحي ولا بعقائده الإيمانية، إنما وضع حدا لعلاقته التقليدية بالتاريخ الديني القائمة على التبعية والتقليد والخضوع لكل ما يتناقض مع واقع الحياة وتغيرها، لإحساسه بأن تلك العلاقة لا تنتمي إلى أصل الدين ولا تتماشى مع حياته الجديدة، ولقناعته بأن هناك تعارضا بين الإثنين، وهذا التعارض من شأنه أن يؤثر في عقيدته، وقد يمثل عائقا في طريق إيمانه، ورفعه يسهلهما ويجعل حياته أكثر سلاسة، ويبعدها عن أي تصادم تشكله تناقضات تركيب الماضي الديني التاريخي على الحاضر الحديث.
لكن المعضلة في هذا الطلاق، أو بين ما هو عقيدة وإيمان وبين تاريخ الدين، هوالسؤال التالي: ضمن أي دين ومذهب ديني سوف يصنّف صاحبه؟ فالمشكلة لا تكمن في طلاق هذا التاريخ وإيجاد رؤى وآليات عقلانية حديثة تعين أمر الإيمان ولا تتعارض مع العقيدة، بل تكمن في المواجهة المتوقعة مع أنصار “التبشير” وخطابهم الوصائي الإقصائي. فسلطاتهم القوية سوف تعمل على إلغاء حامل هذا النوع من العقيدة والإيمان وهذا الطرح من الرؤى الدينية، وتجهد لإخراجه من الدين، وتتهمه بجملة من التهم، بعدما تنصّب نفسها سلطة سماوية على الأرض. ثم بعد ذلك تدّعي وتزعم وتصرخ بأعلى صوتها بأن تفسيرها الديني يحمل مقوّمات التسامح واحترام حقوق الإنسان!!!
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي