يهدي سمير قصير كتابه “تاريخ بيروت” الى حبيبته وزوجته جيزيل خوري، موقعاً الإهداء على النحو التالي: “الى جيزيل، بيروتية من خارج السور”. فما معنى أن يكون المرء بيروتياً على هذا النحو الموصوف: “من خارج السور”؟
لإدراك مغزى هذه العبارة تكون قراءة الكتاب الكبير (690 صفحة) شرطاً واجباً. وبموازاة القراءة علينا ان نتذكر أمراً بالغ الأهمية، وهو ان الأزمنة الحديثة (والحداثة) إتسمت، في وجه من وجوها، بإزالة الاسوار من حول المدن، وبإنتفاء الوحشة خارج البوابات، كما بالسيطرة على الزمن وبالتغلب على عتمة الليل.. الخ. كذلك علينا الإنتباه، وان لا ننسى أبداً أثناء قراءة “تاريخ بيروت” أن كاتبه مقتول باغتيال وحشي كان من أسبابه، بالتأكيد، خروج سمير قصير من الأسوار والانتساب الى بيروت، ومن دون تذكر هذا الإغتيال قد لا يستقيم فهمنا لـ”تاريخ بيروت”. وربما “نفهم” الإغتيال نفسه بعد مطالعة هذا التاريخ.
ثم، وكتمهيد يسبق القراءة نفسها، علينا القول بان المرء إذ يكون بيروتياً (من خارج السور) فهذه هوية تختلف تماماً عن الهوية المكتسبة من مسقط الرأس والجنسية والوراثة أو حتى السكن والإقامة. هذه الهوية “إمتياز” غير متعال يتحصل من الاختيار والتجربة وأسلوب العيش والإنتساب الحر الى ما تمثله هذه المدينة في الأفكار والمخيلة والصور والأوهام والمغامرات، وسيرة سمير قصير نفسها، كما سيرة جيزيل خوري وأفراد كثر لا يحصون تخبرنا عن هذا الامتياز وتدلنا عليه.
وعلى الأرجح، لقد كتب سمير قصير “تاريخ بيروت” ليؤلف (أي أن يصنع ويظهر هذا الصنيع) هويته، هوية جيزيل، هوية بيروتيين من خارج السور. ونحن نعرف أيضاً أن هناك ممن ينتسبون الى هذه الـ”بيروت”، لم يعيشوا فيها مطلقاً، وليسوا لبنانيين، ولم يزوروها حتى إلا في المخيلة والتهويم. وهؤلاء، كما يدلنا تاريخ الكتابة العربية الحديثة، وتاريخ الفنون العربية.. إختاروا بيروت لينجزوا صورتهم عن أنفسهم، أكانوا مقيمين في طنجة أو في بوادي الحسكة.
اشارات رمزية كثيرة تلازم هذا الكتاب وتحيطه. لقد أنجزه مؤلفه بالفرنسية. وبقدر ما هو خيار شخصي للغة بقدر ما هو تلبية لدعوة منشورات فايار الفرنسية التي قررت إدخال بيروت، وكانت لا تزال خراباً، ضمن مجموعة الكتب التي كانت تستعد لإطلاقها عن أهم مدن العالم. وتوسل سمير قصير اللغة الفرنسية كتابة وتعبيراً عن بيروت هو رمزياً وفعلياً إستئناف لتاريخ ثقافي لبناني ـ فرنسي (فرنكوفوني) وما لهذا التاريخ من دلالات. ثم ان صدوره مترجماً الى العربية لم يأت الا بعد إغتياله، فكأن قاتليه كانوا يسعون ليس فقط لقتل الكتاب (والكتب جميعها) إنما قطع كل صلة للثقافة العربية مع خارج اسوارها. واقترحوا علينا باغتياله فصلاً ختامياً لتاريخ بيروت: الموت والدم. وهكذا بين سحر الكتاب ومأسوية موت مؤلفه تتبدى لنا بيروت تاريخاً متأرجحاً بين الجمال والفاجعة، بين التألق والخراب… “مدينة المخاطر كلها” كما كتب سمير قصير.
القارئ العربي يعرف أن الكتابة عن تاريخ بيروت يعني بداهة الكتابة عن آخر معاقل “النهضة” وآخر انفاسها. فمشروعا النهضة والحداثة العربيين ارتبطا بنيوياً بنجاح مدن الساحل العربي في ان تكون مكاناً للإتصال مع الضفاف الأخرى من البحر المتوسط والعالم، تجارة وثقافة، وفي ان تكون ايضاً مثالات كوزموبوليتية تحتضن التهجين والعصرنة وتشكل موئلاً للتقدم والازدهار وعواصم للحريات الفردية والابداع.
من كازابلانكا وطنجة الى قسطنطينية الجزائر ووهران الى الاسكندرية كانت المغامرة، بوجهيها الكولونيالي والوطني، والممتدة من القرن التاسع عشر وحتى خمسينيات القرن العشرين. وكانت هذه المدن تشهد وعداً كبيراً.. لكن، سرعان ما انهارت، وانتصرت مدن الداخل المحافظة والأهلية والمتوجسة من كل غريب وهجين. ومعها انتصرت السلطات المناوئة، واحياناً الكارهة والحاقدة لكل ما هو حديث وتغييري وتعددي..
المغرب الملكي انسحب الى الرباط ومراكش وفاس ليعيش فضاء الحنين الى الماضي والى ما هو تقليدي، فلم يبق من كوزموبوليتية الدار البيضاء (كازابلانكا) سوى اكزوتيكيتها السياحية. الجزائر الجريحة تنسحب الى “تعريب” مأزوم، نافرة من كل ما هو أجنبي، مستنفزة باستمرار ضد ذاكرتها نفسها. مصر الناصرية، العروبية المحاربة، وقاهرتها ستسدل الستارة على الاسكندرية العظيمة في وقت قياسي، وتذهب المدينة الأروع والأشمل في كوزموبوليتيتها الى سبات مميت. مشروع دولة اسرائيل سيقتل في هذه الاثناء وعد حيفا قبل ان يكتمل.
من هذه المدن تبقى بيروت وحيدة تنازع محاولة البقاء والانبعاث مجدداً، لكن نزاعها المرير مع الداخل، دمشق تحديداً، يبدو أنه الآن في ذروته. وربما يترتب على هذا النزاع ونتيجته مستقبل المشرق العربي كله.
وسمير قصير صاحب “تأملات في الشقاء العربي”، راهن على استئناف عصر النهضة أو معاودة الاتصال به واحتضان ما بقي حياً من خصائص هذا المشروع المجهض منذ الخمسينات، ولأجل هذا الرهان تحديداً عمل على تثبيت “الشرعية التاريخية” لمدينة النهضة في المشرق العربي، بيروت. وهذا لا يتأتى الا من خلال كتابة سيرتها، وتذكرها وتأريخها على نحو يبطل فيه المؤرخ سياقاً مديداً من الابتسار والاختزال والاستخفاف والنسيان الذي لحق بهذه المدينة، التي شهدت تطرفين عربيين في توصيفها المختزل، فهي حيناً “دكان وماخور على البحر المتوسط” وطوراً هي “هانوي العرب”، عدا عن توصيفها الاستشراقي المبتذل “باريس الشرق”.
من الغلاف نعرف ان سمير قصير لا يجد مدخلاً لتأريخه هذه المدينة الا عبر الشعر والأدب، فمن نونوس البانوبوليسي (القرن الخامس بعد الميلاد)، الى جيرار دي نوفال (القرن التاسع عشر) الى اليزيه روكلو (1905) فاندريه جيجر (1932) وميشال ايكوشار (1955) وجورج شحادة ومحمود درويش. وهذا المدخل، سيكون مؤثراً على الأسلوب التأريخي لقصير، المشبع بالروح الشاعرية وبالمزاج الروائي والميل الدائم للتأليف وفق “إنطباعية” تشكيلية في الوصف والمشاهدة وابراز المناظر والتوكيد على أثر سينوغرافيا المكان. وكأننا إزاء نمط مختلف من المؤرخين، الذي يكتبون “التاريخ” لا بوصفه سلسلة احداث متعاقبة زمنياً، بل بوصفه معايشة تامة لمناحي الحياة و”فوضى” الوجود، فيكون التأريخ (إذ يسعى لتنظيم هذه الفوضى) متصلاً بأحوال العمران والمجتمع والموضة والفن والأدب، قدر إتصاله بالسياسة والاقتصاد والمنازعات. أي يكون انطولوجياً وأيضاً فينومولوجياً (إذا صح التعبير) ولذا يبدأ تمهيده للكتاب بوصف مسهب لجمالية المكان، ولعشوائية وبشاعة العمران والاسمنت. ويكتب كذلك في التمهيد دالاً على ما يسعى لتناوله: “بيروت الساحة المصرفية، المدينة الجامعية، عاصمة الصحافة والمنشورات العربية، مركز الاستشفاء، مرفأ الترانزيت، عقدة المواصلات الجوية، السوق المفتوحة لكل الصفقات التجارية والمصرفية من أسخفها الى أكثرها شبهة (…) لم تكن بيروت فقط مدينة منطلقة منفتحة على العالم من خلال الأدوار التي لعبتها، بل أيضاً لطريقتها في العيش”.
وهو إذ يشير الى السحر الذي مارسته على المخيلة العربية حديثاً سياحة وثقافة وأسلوب حياة، يلتقط ما قاله غريغوريوس العجائبي في القرن الثالث حيث يظهر واضحاً سخطه على ما تمثله المدينة من مصيدة للنفوس البارة واصفاً إياها بانها “مدينة ساحرة تأخذ بألباب الشبان فتجرهم الى مهاوي الفساد”، وكانت حدائقها (في العصر الروماني) وحماماتها ومطاعمها تغري الطلاب وتزرع البهجة في نفوسهم.
يمكن القول ان سمير قصير بذل جهداً واضحاً ليكون تاريخ بيروت متصفاً بالاستمرارية والديمومة كمكان مأهول منذ “فجر الحضارة”، وكمكان له صفاته المميزة هي نفسها عبر العصور، ولو انه تجرأ في “تعريف” بيروت الحديثة (خلال القرنين المنصرمين): “حاضرة عربية متوسطية ذات طابع غربي”. ولأنها كذلك، حسب قصير، فإن تاريخها المعاصر اضطلع بمهمة مزدوجة، أولاً صياغة الحداثة العربية وبلورة مفاهيمها، ولكن وأكثر من ذلك، المضي قدماً في ممارسة هذه الحداثة في السلوكيات وفي الأفكار.
بعد جمعه لكل ما هو متوافر من مراجع ووثائق، يدون الحقبة الفينيقية، وما تلاها وصولاً الى العصر الروماني، فتاريخها المسيحي، الى العصر الاسلامي ـ العربي، ليصل الى ما يسميه “التحول الكبير” أو الولادة الثانية للمدينة في الفترة الممتدة ما بين 1841 و1876، عندما اجتمعت لحظات ومفارقات تاريخية عدة: الحرب الأهلية في جبل لبنان ونزوح مسيحييه ومسيحيي دمشق. التوسع الأوروبي وتحولات خطوط المواصلات التجارية وحملة ابراهيم باشا المصرية والاصلاحات العثمانية وأفول الداخل. لقد ظهرت بيروت المرفأ، وبيروت الملجأ.
لذلك يخصص الفصل الخامس من الكتاب تحت عنوان “طرق الشام” والتحول الكبير الذي طرأ بسرعة مذهلة على بيروت، ويستشهد قصير ما كتبه قنصل فرنسا هنري غيز عام 1847 “بيروت تستعد اليوم لتأخذ مكانها بعد أزمير والاسكندرية”. ويسهب قصير في النظر الى أهمية الانفجار السكاني والتعاظم الديموغرافي، ثم خطط شق الطرق الكبرى وانشاء المرفأ وبناء السكة الحديد.
سيؤسس ذلك لتكون بيروت “واجهة الحداثة العثمانية”، وهنا سيطرح المؤرخ وجهة نظر تعطي للادارة العثمانية بعض حقها المغبون تاريخياً. فهو يقول “ان جانباً كبيراً من اعادة تشكل المدينة هذه لا علاقة له بأي ارادة تنظيمية بل هو تعبير حر عن النمو الديموغرافي الجديد والتغيير الذي شهدته التركيبات الاجتماعية. هذا من جهة، أما من جهة أخرى هناك التأثير الذي مارسته المجموعات المتنافسة أو المتعاونة من الناشطين في مجال التوسع الأوروبي كالبعثات الدينية التي راحت تنشئ المدارس الواحدة تلو الأخرى. لكن تحول بيروت يبقى غير مفهوم إذا تجاهلنا الارادة التحديثية الصريحة للسلطات المحلية. صحيح أن بيروت النموذج الحي عن “الغرب الذي لا يمكن تجنبه” لكنها كانت أيضاً مدينة التنظيمات العثمانية. وروحية الاصلاح كانت تحرك الحكام فيها والموظفين المحليين والأعيان”.
هذا بالضبط ما سيسمح للقنصل هنري غيز ليقول عن تجدد المدينة “أنشئت فيها قنصليات تمثل كافة الدول تقريباً ومؤسسات تجارية وفنادق ومخازن مجهزة على أكمل وجه وصيدلية أوروبية وأخيراً، أقيم فيها كازينو فخم لا مثيل له حتى في الأساكل الأرفع مقاماً”.
وهنا سيستمتع سمير قصير في تأريخ تفصيلي لما يسميه “عصر معماري جديد” متوغلاً في كل الورش والخطط والانجازات في البنى التحتية والصروح والمواصلات والانماط المعمارية ومظاهر التنظيم المدني. أي كيف ستكون المدينة “مساحة للحداثة”. وهو، ضمن انحيازه للكتابة التشكيلية الانطباعية، سيخصص مساحات واسعة من الكتاب للتحدث عن منظر بيروت وضواحيها، طبيعة وبيوتاً وانشاءات وطرز هندسية وحدائق عامة.
قلب الكتاب النابض، إذا جاز القول، يبدأ من الفصل السابع المعنون بـ”الثورة الثقافية”، ومن هنا سيبدأ سرد الملحمة الاستثنائية من تاريخ بيروت، أي عصر النهضة.
أن نمو بيروت الذي أطلقه الاقتصاد وكرسته السياسة، تحقق أيضاً على ايقاع هذه الثورة الثقافية التي عرفت بـ”النهضة”. ورواية قصير لهذه الحقبة ستتسم بديناميكية ساحرة وبقدرة على عقد الصِلات ما بين شتات المفارقات والوقائع في حقول التعليم والتجارة والتمدن والعمران والسياسة والأفكار، ليؤلف مشهداً بانورامياً، ملحمياً.
ولأننا لا نطمح هنا لتقديم عرض لمحتويات الكتاب وفصوله المتوالية، نشير فحسب الى روحية التأليف لدى المؤرخ، وكيف يتبصر في مادة أرشيفه. هذه الروحية هي ادراك الماضي ككائن حي مستمر ومتدفق في نسغ المستقبل. فهو مثلاً يكتب عن إنشاء الجامعات في بيروت انطلاقاً من روما وبوسطن، فيقول: “مع بداية القرن الحادي والعشرين لا يزال اثنان من أكثر شوارع بيروت حياة، بلس ومونو، يتقاسمان النشاط الثقافي بفضل وجود الجامعة الأميركية وجامعة القديس يوسف”.
وفق ولعه بهذه المفارقات الدالة سيشير ان الجامعة الأميركية تم تمويلها بأموال بروتستانتية أميركية، وايضاً فان الجامعة اليسوعية نفسها، الفرنسية أنشئت بفضل هبات أميركية وان كان المتبرعون كاثوليكيين.
وتستمر هذه المفارقات وهذا الترابط الخفي للتاريخ، حين نلحظ مع المؤرخ، كيف ان نهضة بيروت الحديثة ستشهد انطلاقة العلوم القانونية في عصر ذهبي لجامعة القديس يوسف ويكون لذلك اسهام عظيم في الحياة السياسية اللبنانية طيلة القرن العشرين، ما يعيد لنا صورة بيروت الرومانية تلقائياً، حين كانت تلقب بـ”أم الشرائع”.
جاذبية تاريخ سمير قصير ستكون في تلك الشطحات المتعمدة والمقصودة، كمثل اسهابه في ملاحظة وتدوين ما تغير وتحول على أثاث البيوت والأزياء، أو هذا المقطع البديع المخصص لآداب المائدة وما طرأ عليها، قارئاً في ذلك المغزى العميق لهذه العادات المستجدة والسلوكيات الجديدة في تمهيدها لظهور الفردية وتكريسها إجتماعياً. كذلك اهتمامه مثلاً في اظهار ما طرأ على العادات الاستهلاكية والأطعمة المستوردة. ثم هذا الانتباه ليس فقط للمظاهر الكبرى في النهضة الثقافية (المطابع، الكتابات، الصحف)، ولا في النهضة العمرانية أو الإقتصادية، بل أيضاً في تفاصيل العيش من مثل بداية عادة “التنزه” أو امتلاك السيارات، أو مزاولة الرياضة، و”إكتشاف” البحر، والسباحة.. الخ.
المضمون السياسي لا يغيب عن أي من اسطر الكتاب. وبأسلوب المؤرخ الذي عرّفناه، بانه التقاط للمفارقة، سيعرف سمير قصير كيف يلتقط “الانقلابات” التاريخية في السياسة، فهو إذ اراد تأريخ حقبة الانتداب يكتب بألمعية: “في 24 تموز 1921 التهم حريق قاعة “زهرة سورية” في جنوبي ساحة الحميدية القديمة. وفوق انقاض قاعة المسرح هذه التي احتضنت أول حفلة سينمائية في بيروت، أنشئت الباريزيانا، الكباريه ـ المقهى”. هكذا حسب تاريخ قصير تبدأ حقبة الانتداب.
الكتاب يسرد كل تاريخ بيروت حتى لحظة الانتهاء منه أي عام 2003. والمفارقة الأخيرة لن يتسنى للمؤرخ المقتول التقاطها، نحن الذين بقينا أحياء بعد موته، وبفضل ما كتبه وما دلنا عليه سنعرفها، فهو يكتب عن لحظة الاستقلال: شاءت فرنسا ان يكون مكان إعلان لبنان الكبير في الأول من أيلول 1920 في مبنى يعكس بشكل نموذجي الهندسة النيو ـ مغربية، كان أعده الحاكم العثماني القديم ليكون كازينو وصالة سينما. وامام درج المدخل جمع الجنرال الفرنسي بطل الحرب بعض الأعيان احتفالاً بالمناسبة. والغريب في الأمر أن هذا المشهد سيتكرر ولكن مضمونه سيختلف بتأسيس كيان آخر جديد. أما مسرحه، فسيكون هذه المرة وسط بيروت حيث أنشأت فرنسا تطوراً عمرانياً على صورتها. ففي ساحة النجمة، وهي الرمز الواضح للزمن الجديد الذي يخيم عليه ظل باريس، دوت اصداء هذا التوق الى مستقبل دون فرنسا، لا بل ضدها. ورافق تغيير الاطار تغير مماثل في نمط العمل السياسي. وبدلاً من جماعة الاعيان ورجال الدين الذين احاطوا بالجنرال غورو، تجمع آنذاك حشد أمام البرلمان يهتف مندداً بخلفه هيللو. حشد متعدد التركيب أو ربما شعب التفّ لأول مرة حول فكرة استقلال تجعله السياسة العالمية ممكناً. فعلى غرار الحركات الأخرى المنادية بازالة الاستعمار التي تعززت في فترة ما بين الحربيين العالميتين، في الهند أو في مصر، كانت نزعة الاستقلال في لبنان تستعير من أوروبا، ولو لبضعة أيام فقط، نموذج تعبئة الجماهير”.
هكذا نرى بألم المفارقة التي لن يستطيع سمير قصير أن يكتبها. أي التماثل والتشابه بين ما دوّنه لمشهد عام 1943 والمشهد الذي عشناه مع المؤرخ المقتول، في ربيع 2005. كما لو أن تاريخ بيروت، كما قال قصير نفسه: “لن ننسى ان موضوعه استنفد في دوامة عنفه بالذات”.
(المستقبل)