لا يوجد شك في أن كل إعادة تأسيس فكري تبدأ بصفحة بيضاء. ولكن هذه الإعادة لا تأتي من فراغ فكري؛ فلا بد من عودة ما إلى تاريخ الفكر. فأي نهضة ((Re- naissance، وأي إصلاح، أو بالأحرى إعادة تشكيل (Re-forme)، وأي ثورة (R-evolution)، تتضمن مثل هذه العودة. وإننا نرى دلالة هذه العودة في السابقة اللغوية (RE) الموجودة في هذه المصطلحات. وكذلك نراها في المفهوم الروسي، إعادة البناء (البيريسترويكا / Peri-stroika).
-I-
والمقصود بالعودة، هنا، الرجوع إلى بعض المفاهيم والمبادئ والأصول من تاريخ الفكر، التي عادت لتطفو كضرورة على السطح الاجتماعي من جديد، ولكن الأمر يتطلب حين العودة إليها إزالة ما تراكم فوقها، خلال سيرورتها التاريخية، من أدران وسلبيات ومعيقات وهذا ما يسمى في الجدل أو (الديالكتيك) بعملية نفي النفي. ولكن هذه العودة إلى بعض الأصول والمبادئ، لا تعني على الإطلاق الرجوع إلى الماضي لنعيش فيه، بل الغرض منها إحياء بعض المبادئ والأدوات والأفكار الهامة، التي لا تزال قادرة على الإسهام الفعال في عملية تغيير الحاضر إلى مستقبل أكثر تقدماً.
وعلى سبيل المثال، ما أحوجنا نحن في العالم العربي لعودة إلى الخليفة عمر بن الخطاب حينما ألغى تطبيق مفاعيل بعض النصوص المقدسة حين تغيّر الواقع. وكذلك الحال ما أحوج الشيوعيين العرب إلى عودة للينين حينما بدأ يعيد النظر في برنامجه الاقتصادي في بداية العقد الثالث من القرن الماضي (السياسة الاقتصادية الجديدة/”النيب”)، وكذلك مطلوب منهم عودة إلى ماركس وانجلز وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي سواء فيما يتعلق بفرضية بناء الاشتراكية في بلد واحد، أو حول العلاقة العضوية بين الديموقراطية والاشتراكية. وكذلك نحن العرب جميعاً ما أحوجنا لعودة إلى عبد الرحمن الكواكبي ونظريته حول تلازم الاستبداد والفساد والجهل، وعودة إلى لطفي السيد وطه حسين وعلي عبد الرازق وأفكارهم حول الدولة المدنية وحول فصل الدين عن العلم والدولة.
وعلينا أن نميز بين العودة إلى بعض الأصول الفكرية، وبين السلفية أوالتمامية (integrisme) التي تحيل إلى الماضي فقط. فالتماميون (integristes) يرفضون أي تلاقح بين الأدوات المعرفية الجديدة والأدوات المعرفية القديمة، وذلك بذريعة الخروج عن الدين/ أو تحريف النظرية.
فروّاد الإصلاح الديني في أوربا (لوثر وكالفن)، كان رجوعهم إلى تعاليم السيد المسيح ليس ليعيشوا في أيامه، بل ليزيلوا ما علق بالكنيسة من أدران وطقوس نافلة ومعيقات أمام التقدم الاجتماعي. يقول انجلز عن هؤلاء الرواد أنهم “عاشوا في قلب اهتماماتِ عصرهم”. كانت البروتستانتية محايثة لنشوء النظام الرأسمالي، الذي كان يعني آنذاك نظام المستقبل والتقدم الاجتماعي وتجاوز النظام الاقطاعي المتخلف والراكد. وكان يعتبر عالم الاجتماع (ماكس ويبر) الإصلاح الديني أنه العتلة التي دفعت الرأسمالية إلى الأمام. في المقابل، فقد لعبت الطرق الصوفية والعادات التقليدية والبالية دوراً كابحاً لتطور تجربة محمد علي باشا في القرن التاسع عشر في مصر.
وكذلك النهضة الأوربية كانت فيها عودة إلى الفلسفة الإغريقية، بدءاً من فلاسفة الطبيعة مروراً بسقراط فيلسوف الأخلاق، وأفلاطون فيلسوف الجدل، إلى أرسطو فيلسوف المادة والشكل والمنطق، وهيراقليط فيلسوف القضاء ومقولة الإله الواحد النافي للآلهة المتعددة. وكذلك النهضة الأوربية بشكل عام كانت تتضمن عودة إلى الديموقراطية الأثينية، وساحة الاجتماع العام (الأغورا) ومقولة (القانون فوق المدينة) وليس تحتها، كماهو الحال الآن في البلدان الشمولية الاستبدادية.
ومن المفارقات أن بعض فروع الفلسفة العربية الإسلامية مثل (الرشدية) كانت عوناً كبيراً لأوربا في عملية نفي النفي الكبرى التي شرع فيها بعض الكتاب والفلاسفة الأوربيين، ومن ثم كرسها فرانسيس بيكون وليوناردو دافنتشي وكوبرنيك وجوردانو برونو وغاليله وديكارت وسبينوزا وآخرون…..
إن النهضة أو البعث، والإصلاح والثورة، كل هذه المقولات تتضمن عودة إلى الماضي، ولكن هذه العودة ، ليست حركة دائرية في المكان أو نكوصاً وتمترساً في الماضي، بقدر ما هي تقدم الدائرة أو على الأصح تقدم دولاب العربة إلى الأمام. وهذه العودة في المحصلة تعني استلهام أكثر مفاهيم تاريخ الفكر راهنية لإعادة تأسيس فكر جديد مستقبلي وفعال.
وكذلك ماركس وانجلز، في تأسيسهما الفكري فقد عادا إلى تاريخ الفكر والفلسفة والاقتصاد، إلى ابيقور وسقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وليبنيتز وسبينوزا وكانط وهيجل وفيورباخ وآدم سميث وريكاردو والاشتراكيين الفرنسيين…
-II-
في العودات الفكرية وإعادات التأسيس، دائما فيها القديم والحديث وليس القديم وحده وليس كله، كما يحدث الآن في عالمنا العربي أو في العالم الإسلامي، حيث العودة إلى الماضي تلجأ إلى جوهرة هذا الماضي، بكل صيرورته خلال أربعة عشر قرناً، وتقديسه وجعله فوق النقد. وهذا الفكر لا يعترف إلا بالماضي وينفي من قاموسه أدوات الحاضر، وكذلك ينفي إمكانية تشكل أدوات معرفية جديدة في المستقبل.
وكذلك الفكر التمامي والسلفي الذي نتكلم عليه، لا يتسم بكونه ماضوياً فحسب، فهو أيضاً ذاتياً بامتياز، فلا يعترف بماضي الآخر ولا بحضارات ومعارف الأمم الأخرى. فتاريخ الفكر بالنسبة إليه ليس تاريخ الفكر العالمي وإنما تاريخه هو. وحتى بالنسبة لتاريخه الخاص فهو انتقائي، فلا يقيم أي اعتبارلأي شيء منه يتناقض مع شعاراته الإيديولوجية التي يرفعها.
من هنا نرى أن كل عودة وكل ثورة يمكن أن تحمل في طياتها إمكانية نكوصها، وبالتالي يمكننا الكلام على ثورة رجعية حتى لو كانت تتحلى بأشد أشكال العنف. فالعنف لا يكفي لإعطاء الثورة سمة التقدم. ويبدو في هذا السياق، أن المصطلح باللغة العربية يحدث بعض الالتباس. فالثورة من الثور والثوران والهيجان، بينما في اللغات اللاتينية والسلافية، الثورة تعني إعادة التطور ( Re-evolution) والتغيير وهذا يجري بالعنف أحياناً و بغير العنف في أحيان أخرى. ولذلك يمكننا الكلام على ثورة اجتماعية تقدمية ومستقبلية، حتى لو لم يرق فيها أي نقطة دم. وكذلك يمكننا الكلام على ثورة علمية وثورة زراعية وثورة صناعية وثورة تقنية.. إلخ.
وإذا كانت الثورة تعبر عن انتقال من حال إلى حال، فبهذا المعنى تحيل إلى أحد قوانين الديالكتيك: “التغير الكمي يؤدي إلى تغير كيفي”، ولكن هنا من الضروري التمييز فيما إذا كان هذا التغير الكيفي تقدماً من الخلف إلى الأمام، أوإذا كان تراجعاً من الأمام إلى الخلف. وبهذا الصدد فقد قام المفكر والمناضل المصري الراحل محمود أمين العالم بعودة فكرية حينما نقد موقف اليسار المصري من فكر طه حسين في أربعينات و خمسينات القرن الماضي حينما اعتبره مجرد مفكر برجوازي ليبرالي ولا يخدم غير مصالح الرأسمالية.
zahran39@gmail.com
* كاتب سوري