بعد ستة أشهر ونيف قضيتها مع والدي في المعتقل، برفقة عدد من نخبة المثقفين والنشطاء السوريين، خرجت إلى السجن الكبير وكلي أملٌ أن أتقدم لامتحان التخرج في كلية الحقوق، وحيث أني أدرس في لبنان وسيف “المنع من السفر” يطال عنقي، كما طالَ ويطالُ أعناق العشرات من النشطاء في سوريا، مُنعتُ من السفر وطبعاً فاتني العام الدراسي كاملاً، لكن سنة دراسية في حب الوطن ليست بكثير.
تقدمت بطلبٍ إلى إدارة المخابرات العامة للسماح لي بالسفر، وأتت الموافقة بعد المراجعات المتكررة والسين والجيم، لكن أتت بإذن سفر لمرة واحدة.
طبعاً استثمرت الإذن “الفرصة”، وغادرت إلى لبنان، ستة أشهرٍ كانت الفصل الدراسي الذي لن أنساه… تغيبتُ فيه عن العمل العام، وغِبتُ فيه عن الناس الذين اعتدتُ لقاءهم، فلا تضامنَ أمام محكمة أمن الدولة ولا هتافات ولا مشاكل ولا استدعاءات، ولا تواجد في محكمة الجنايات حيث اعتدتُ لقاء أساتذتي المعتقلين، فلا قبلات لأنور البني، ولا إشارات تلويح لكمال اللبواني، ولا تصفيق لميشيل كيلو ومحمود عيسى.
تغيبتُ أكثر…. عن شقيقي و أصدقائه (طلاب الحرية كما أسميهم وأحب أن يوصفوا)، تغيبت عن تلك المحاكمة الصورية أمام تلك المحكمة الاستثنائية المقيتة.
ستة أشهرٍ مضت… بعيداً مبعداً عنكم أيها الأحباء، تفصلني عنكم أقل من ساعة من الزمن، وسيف المنع من السفر يلاحقني، تابعتُ فيها أخباركم يومياً… وبين الأيام…وبين الدقائق والثواني، حزنت للأحكام الصادرة بحقكم…وفرحت لمواقفكم البطولية التي أدهشت الجميع في سورية وفي لبنان وفي كل مكان، قرأت المقالات التي كتبت عنكم… لم ولن أنساكم. توّجت الأشهر الستة بنجاحٍ في امتحانات التخرج، استحققت بموجبه لقب خريج كلية الحقوق بتقدير جيد.
نجاحي نابع منكم… من نجاحاتكم ومواقفكم، من انتصاركم للحق والمظلومين، نجاحٌ لا يؤرقه إلا غيابكم، ولا تنقصه إلا مباركتكم ومجاملاتكم اللطيفة، لا أشعر بفرحته إلا بمشاركتكم، إليكم أساتذتي، أهلي، أحبائي، رفاقي في الوطن أهدي نجاحي المتواضع:
ـ إلى العظيم الذي سمعتُ عنه كثيراً، إلى من ضحّى لينعمَ الآخرون بحياةٍ أفضل، إليك أيها السبعيني القوي، يا قدوة الأحرار د. عارف دليلة.
ـ إلى عمي وصديقي وأستاذي العزيز ميشيل كيلو ورفيقي داخل مكتبة السجن حيث كانت الأوقات تجمعنا، نسرقُ منها لحظات السلام والكلام من الجلادين والمراقبين لنا.
ـ إلى محامي الحرية الذي ترافع عني يوما أمام المحكمة العسكرية ثم عدنا لنسجن معاً لاحقاً، صديقي ومعلمي وزميلي في “دروس اللغة الإنكليزية” إلى المناضل أنور البني.
ـ إلى من تعرفت إليه سطحياً قبل اعتقالي الأول، وسافر قبل خروجي الأول، وعاد ليعتقل لألقاه وأتعرفَ إليه جيداً في المعتقل ثانية، إلى الذي دفع كالآخرين حريته ثمناً من أجل أن يتحرر الشعب السوري د. كمال اللبواني.
ـ إلى الذي ما عرفته إلا في السجن، فأحببت السجن لأنه عرفني إليه، إلى الأستاذ المناضل محمود عيسى.
ـ إلى الذي لم أتشرف بمعرفته قبلاً وأتمنى أن أتعرف إليه قريبا في منزله المناضل فائق المير.
ـ إلى أستاذي في الثانوية، وجاري في الحي، وإمامي في المسجد، إلى المربي الفاضل الأستاذ رياض درار.
ـ إلى المعتقلين في الجناح الثاني في سجن عدرا، ممن عرفتُ ولم أتشرف بعد، إلى من فسّر معنى الجرأة لي، وأفهمني معنى التضحيات، إلى الأخوة الأكراد في سجن عدرا.
ـ إلى ضحايا القضاء الفاسد، من معتقلين جنائيين، ذنبهم الوحيد عجزهم عن رشوة القاضي الفاسد، إلى من ظلموا بلا سبب سوى أنهم فقراء وشرفاء.
إلى صيدنايا أتحول، إلى ذلك المكان القميء، حيث الجلادون كثر… والمعتقلون أيضا، حيث التعذيب يوزع كما الطعام، لكنك تأكل برضاك وتعذب رغماً عن أنفك، إليكم هناك أهدي نجاحي المتواضع:
ـ إلى الناشط المدافع عن حقوق الإنسان، إلى الذي غيّب حقوقه لأجل حقوق الآخرين، إلى المهندس نزار رستناوي.
ـ إلى طلاب الحرية في عالمهم الجديد، حيث يغيب الجيل الصاعد وتُنْسى الكتب ومقاعد الدراسة، حيث لا جامعة هناك إلا الاضطهاد يجمع بين الجميع:
ـ إلى خبير الكومبيوتر الذي استخدم خبرته وسخرها في سبيل الحرية قبل أن يصطاد الجلاد حريته، إلى طارق الغوراني.
ـ إلى من أُدمي جسده في فرع المخابرات الجوية في حرستا، حيث التحقيق يراعي المعايير الإنسانية بكل ما استطاعت يد الجلاد من قوة، إلى ماهر إسبر.
ـ إلى الشاعر الذي لم أقرأ شيئا من كتاباته إلا بعد اعتقاله “فلتشرق كالشمعة”، حسام ملحم.
ـ إلى من ترك مدينته وأتى إلى دمشق طلباً للرزق، فجمعته الأقدار بمجموعة من الطلاب، شاركوه أفكارهم فشاركهم سجنهم، إلى أيهم صقر.
ـ إلى الفنان، طالب الدبلوم في النحت، إلى من استخدم إزميله لنحت تماثيل الحرية والديمقراطية، إلى من آمن بقدرة الإبرة على نحت جبل، علام فاخور.
ـ إلى من ولد في صيدنايا، وعاد ليسجن في معتقلها الكريه، إلى من احتضنته بلدته بغير ما أحبَ ونُحبُ له، إلى دياب سرية.
ـ إلى أخي شقيقي “اللدود”، إلى نصفي الثاني المبعد عني، إلى من أستنشق الهواء من خلاله، وتخرج زفراته من خلالي، إلى من سبقني في حب الوطن ودفع أكثر مما دفعت، تلك المحاولة البسيطة ـ التي أفشلها الجلاد ـ ليفكر الشباب في سوريا بشكل أفضل ولو بقليل، إلى عمر العبد الله.
ـ إلى الجميع في ذلك المعتقل الكريه، إلى معتقلي التل، العتيبة، حرستا، دوما، العبادة، إلى معتقلي قطنا ممن عرفت ولم أعرف…. إلى كل حرٍ دافع عن الحرية، إلى كل من لم يرض السكوت والهوان…إلى الأبطال في ذلك السجن الصغير، أهدي نجاحي المتواضع، ذاك النجاح الذي لم يكن لولا إلهامكم، النجاح الذي تشرّف صاحبه بأن أهداه إليكم.
وأخيرا وليس آخرا:
ممنوع من الكلام
ممنوع من السفر
ممنوع من الُغنا
ممنوع من الاستياء
ممنوع من الاشتياق
وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات
وكل يوم بحبك أكثر من اللي فات
إلى وطني الغالي سوريا أهدي نجاحي المتواضع.
(*) ناشط وحقوقي سوري
ma.abdallah2007@gmail.com
حنين : إهداء إلى معتقلي الحرية في سوريةإلى أخوتنا أحرار سوريا ومن خلفهم كل أحرار العالم العربي تحيه وبعد. بكل فخر وإعتزاز نحن أحرار ثورة الأرز في لبنان نشد على اياديكم ونؤكد لكم دائما إن أحرار لبنان والعالم العربي معكم في السراء والضراء ، كما أحرار العالم كله . نحن نعي كم هو نظامكم جائر بحق تحررالشعب العربي في سوريا ولقد ذقنا الأمرين منه أثناء إحتلاله لبنان ،ونعلم طرق التعذيب التي مورست على شبابنا وكم هي قاسيه تلك المعتقلات القابعه تحت أرض الحريه والعنفوان التي نحبها . نعم لقد حول هذا النظام أرض الحريه والكرامه إلى أرض لظلم الإنسان ولقد… قراءة المزيد ..