ظلت حقيبة الخارجية الباكستانية شاغرة على مدى الأشهر الثلاثة الماضية منذ إستقالة الوزير “شاه محمود قريشي” في إبريل الماضي إحتجاجا على موقف حكومته من قتل باكستانيين إثنين في لاهور على يد إمريكي منتسب إلى الإستخبارات الإمريكية. وطوال هذه الفترة كانت أعباء الدبلوماسية الباكستانية منوطة بالشخصية الثانية في الوزارة، وتحديدا وزيرة الدولة للشئون الخارجية “حنه رباني كهر” العزباء الحسناء ذات السنوات الأربع والثلاثين.
ويبدو أن الآنسة “حنه” قد أبلت بلاء حسنا في مهامها وزياراتها الخارجية ومفاوضاتها مع نظرائها الأجانب( ولا سيما لجهة الحصول على مساعدات مالية) مما شجع رئيس الحكومة “سيد يوسف رضا جيلاني” على التوصية بترقيتها لتصبح أصغر وزراء الخارجية سنا في تاريخ باكستان واول سيدة تتولى هذا المنصب الرفيع الذي عادة ما يكون موضوعا للتنافس الشديد بين الدبلوماسيين المخضرمين بسبب ما يتبعه من إمتيازات ومخصصات وإعفاءات وزيارات خارجية مدفوعة الثمن.
إن وصول أنثى إلى مواقع صنع القرار العليا أو شغلها لحقائب سيادية أو لعبها دورا متميزا في التشريع ليس بالأمر المستغرب في باكستان، على الرغم من كل التقاليد الإجتماعية المحافظة وكل الحجج الدينية التي عادة ما ترفعها الجماعات المحافظة من تلك المتأثرة بالنهج السلفي المتشدد الذي يقول “لا ولاية للمرأة”! إذ كلنا يعرف أن باكستان هي الدولة الإسلامية الأولى في العالم التي منحت قيادتها لإمرأة، وذلك حينما إنتخبت الراحلة “بي نظير بوتو” كرئيسة للحكومة مرتين. إلى ذلك فإن البرلمان الباكستاني يـُصـّنف على أنه من أكثر برلمانات العالم الثالث تمثيلا للمرأة، الأمر الذي يــُعـْزى إلى الدعم القوى الذي كان الرئيس السابق الجنرال برويز مشرف يقدمه لنساء باكستان من أجل ترغيبهم في الإنخراط بصورة أقوى في الحياة العامة. كما وأن حكومة “جيلاني” الحالية تضم أكثر من وزيرة، لكن تظل الوزيرة الجديدة “حنه” أكثرهن جمالا وسحرا وجرأة ونفوذا وتعددا في المواهب، الأمر الذي صار معه البعض يسميها بـ “بي نظير بوتو الثانية” في تلميح إلى أنها قد تواصل صعودها السياسي حتى تصبح رئيسة للحكومة في القادم من السنوات.
وبطبيعة الحال، فإن أعداء بروز النساء وصعودهن إلى المناصب القيادية الحساسة لجأوا فورا إلى القول بأن الأوضاع الإستثنائية التي تمر بها باكستان – سواء على صعيد الشكوك التي تسيطر على العلاقات الباكستانية – الإمريكية منذ إتهام واشنطون لجهات داخل الجيش والإستخبارات الباكستانية بالتستر على زعيم تنظيم “القاعدة” المقتول “أسامة بن لادن”، أو على صعيد العلاقات المستقبلية مع كابول في أعقاب إنسحاب القوات الأطلسية من أفغانستان، أو على صعيد الخلل المزمن في علاقات إسلام آباد مع نيودلهي – يفترض معها أن تكون مقاليد الدبلوماسية الباكستانية في يد وزير يمتلك خبرات وعلاقات وقدرات إستثنائية، خصوصا مع إقتراب موعد إجراء حوار مع الهند لتخفيف حدة التوتر الذي نشأ بعد هجمات مومباي الإرهابية في عام 2008.
لكن من يردد مثل هذه المزاعم، ربما يكون غير مطلع بما يكفي على شخصية الآنسة “حنه” الآسرة، ومواهبها، وثقافتها، وثقتها بنفسها، وإفتخارها بباكستانيتها، وحبها للمغامرة، وحرفيتها في العمل، وبعد نظرها. فالذين شبهوها بـالراحلة بوتو لم ينطلقوا من فراغ. فإذا كانت الأخيرة برزت وصعدت صعودا صاروخيا على المسرح السياسي بفضل ما ورثته عن والدها من نجومية وشعبية و ما ورثته عن أسرتها من نفوذ سياسي وإقطاعي ومالي في إقليم السند، فإن “حنه” تملك إرثا مشابها. فوالدها هو السياسي والإقطاعي البنجابي المعروف “مالك غلام نور كهر”، وخالها هو رجل الأعمال والحاكم الأسبق لإقليم البنجاب “مالك غلام مصطفى كهر”، وأسرتها، كما أسرة بوتو، من كبار ملاك الأراضي، بل ويمتلكون أساطيل الصيد البحري، والحقول الشاسعة المزروعة بقصب السكر والمانجو، مما يجعلها صاحبة نفوذ في واحدة من أقوى الأقاليم الباكستانية وأكثرها تزويدا للجيش والشرطة بالمجندين والعناصر الأمنية.
لم تتخرج “حنة”، المولودة في يناير 1977 بمدينة “مولتان” البنجابية، من جامعتي أكسفورد وهارفارد، كما فعلت بوتو، غير أن تحصيلها العلمي لا يمكن الإستهانة به. فهي من بعد حصولها على بكالوريوس العلوم الإدارية من جامعة لاهور في عام 1999، جربت حظها في عالم “البزنس” (تملك اليوم إستثمارات معتبرة في رياضة البولو الأرستقراطية وسلسلة من المطاعم الفاخرة)، لكنها سرعان ما فضلت الذهاب إلى الولايات المتحدة للإلتحاق بجامعة ماساتشوسيتس التي نات منها درجة الماجستير في التجارة والإدارة في عام 2001 . ولعل الشهادة الأخيرة ساعدتها كثيرا في فك طلاسم ورموز الموازنة العامة، فكانت الأنثى الأولى في تاريخ باكستان التي وقفت في الجمعية الوطنية في يونيو 2009 للإدلاء ببيان الميزانية. كما أن الشهادة الرفيعة نفسها، معطوفة على إستحواذها على مقعد نيابي عن “حزب الرابطة الإسلامية – جناح القائد الأعظم” في الفترة ما بين 2003 و2007 سهل لها تقلد منصب وزيرة الدولة للشئون الإقتصادية في عام 2008 فأصبحت بذلك مسؤولة عن ادارة القروض والهبات الدولية (الثنائية والمتعددة الأطراف)، اي صارت تشرف إشرافا كاملا على أي مشروع ينفذ في باكستان بمساعدة أجنبية. وفي العام نفسه أختارها المنتدى الإقتصادي العالمي ضمن قائمة القادة الشباب الأكثر تأثيرا على مستوى العالم.
وهكذا نرى أن الذين يتخوفون من قيادة “حنة” لدفة السياسة الخارجية الباكستانية بحجة صغر سنها أو قلة خبرتها، لا يستندون إلى حقائق قدر إستنادهم إلى أوهام. فعلى الرغم من تجربتها السياسية القصيرة التي بدأت في عام 2003 بخوض الإنتخابات التشريعية على قائمة “حزب الرابطة الإسلامية – جناح القائد الأعظم”، قبل أن يرفض الأخير إعادة ترشيحها في عام 2008 ، فتضطر إلى الترشح من دائرة “مظفرغره” البنجابية على قوائم حزب الشعب الباكستاني (حزب آل بوتو)، أثبتت هذه المرأة نجاحا في كل ما إسند إليها من مهام، كما إكتسبت خبرات إضافية من زياراتها ولقاءاتها – سواء حينما كانت وزيرة دولة للشئون الخارجية او للشئون الإقتصادية – مع نظرائها في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وهولندا والإمارات والسعودية وسنغافورة.
ولعل ما يسند هذا وذاك هو الرؤية الواضحة التي تملكها “حنه” عما يجب أن تكون عليه باكستان. وهي رؤية دفعت صحيفة “ساترداي بوست” إلى القول: (لو كان في باكستان عدة نساء من إمثال “حنه” لما إحتاجت حكومتها لتلميع صورتها القاتمة عند الآخر). وجاء هذا القول بعد مقابلة أجرتها الصحيفة المذكورة مع “حنه”، قالت فيها الأخيرة أن ما يعيق تقدم بلادها هو تفشي الفساد على مختلف المستويات، وعدم قيام الكثير من المسئولين بما يمليهم عليهم واجبهم تجاه الوطن، وبروز النزعات الفئوية والطائفية والجهوية، وعدم إستعداد الجماهير لتحمل بعض المصاعب مؤقتا من أجل قطف الثمار لاحقا. ومما تبين من ردود “حنه” في المقابلة المذكورة أنها شديدة الإعتزاز بثقافتها وهويتها، وأنها ترى أن لباكستان مستقبل باهر وقدرة على المنافسة لو تم تطوير البنى التحتية، ولو أنفقت أموال أكثر على إصلاح التعليم و التقدم التكنولوجي، مع إستعارة التجربة التايلاندية في تشجيع النازحين من الأرياف والقرى على العودة إلى مواطنهم عبر إطلاق المشاريع اليدوية الصغيرة وفق شعار “لكل قرية منتج واحد”.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh