في السادس من هذا الشهر نشرت منظمة “هيومان رايتس ووتش” الجزء الثاني من تقريرها عن الانتهاكات التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي في حربه على لبنان صيف 2006 وشكل وفقاً لتعليقات الصحف الاسرائيلية أعنف ادانة من منظمة دولية مدافعة عن حقوق المدنيين لممارسات الجيش الاسرائيلي في هذه الحرب. أهم النقاط التي يثبتها التقرير عبر وثائق جمعها فريق عمل محترف بدأ بجمع المعلومات مع بداية المعارك لينتهي اليوم الى تقرير نهائي هي: ان غالبية القتلى اللبنانيين الذين سقطوا في هذه الحرب هم من المدنيين، فمن أصل 1109 قتلى هناك 850 مدنياً و250 مقاتلاً من “حزب الله”. ومن بين القتلى المدنيين هناك 302 من النساء والأولاد الذين لم تتجاوز اعمارهم العشر سنوات.
النقطة الثانية الاساسية دحض التقرير الذريعة الاسرائيلية الاساسية التي استخدمها الجيش لتبرير وقوع اصابات بين المدنيين بأن “حزب الله” كان يستخدم المدنيين دروعاً بشرية. يؤكد التقرير بصورة قاطعة وغير خاضعة للجدل أن سبب وقوع هذا العدد الكبير من الضحايا بين المدنيين هو السياسة الاسرائيلية التي تجاهلت وجود عدد كبير من السكان في قراهم في الجنوب بعد الانذارات التي وجهها الجيش اليهم بضرورة اخلائها تجنباً للقصف. ويشير التقرير الى رفض اسرائيل الابقاء على منفذ آمن لفرار المواطنين، مما يجعل تحذيرات الجيش المسبقة الموجهة للمدنيين غير مفيدة.
النقطة الثالثة المهمة التي تضمنها التقرير اشاراته الى عدد من الأخطاء الاستخبارية في تحديد أهداف القصف مما حصد عدداً كبيراً من القتلى في صفوف المدنيين اللبنانيين. كما يعدد التقرير حوادث قتل متعمد قام بها الجنود الاسرائيليون في حق مواطنين ابرياء كما جرى في قرية الطيبة مثلاً.
باختصار شديد يشكل التقرير أهم عمل موثق بالارقام والحوادث والأسماء لكل الانتهاكات الخطيرة التي اقترفتها اسرائيل في حربها الأخيرة على لبنان، وهو بمثابة لائحة اتهام طويلة بحق اسرائيل، ستشكل دعماً مهماً للمساعي التي تبذلها لجنة حقوق الانسان النيابية التي يترأسها النائب غسان مخيبر والتي أخذت على عاتقها جمع الأدلة التي تدين الممارسات الاسرائيلية في هذه الحرب بهدف صوغ قرار اتهامي ضدها لتمكين الدولة اللبنانية من مقاضاة اسرائيل دولياً على جرائمها نظراً الى كونها الجهة التي لديها صلاحية رفع الدعوى امام المحاكم الدولية.
والحق فان الوقائع والمعطيات والدلائل الكثيرة التي تضمنها تقرير المنظمة من شأنها أن تشكل خير عون لعمل اللجنة اللبنانية وربما ستمكن لبنان للمرة الأولى بعد التاريخ الطويل للعمليات الحربية الاسرائيلية ضده من مقاضاة اسرائيل وملاحقتها وتدفيعها ثمن الدمار الكبير الذي لحق بهذا البلد شعباً ومؤسسات وبيئة.
من هنا تبدو الهجمة العنيفة التي تعرضت لها منظمة “هيومان رايتس ووتش” في لبنان وارغامها على الغاء مؤتمرها الصحافي بعد التهديد بوقفه بالقوة واعتبار التقرير منحازاً وغير عادل و”يضع الجلاد والضحية في نفس الخانة” غير مفهومة وفي غير مكانها الصحيح. فالذين ثاروا واعترضوا ووقفوا ضد التقرير بغض النظر عن مواقفهم وانتماءاتهم السياسية كلهم وضعوا المصالح السياسية الضيقة فوق المصلحة الكبرى للبنان والفائدة المرتجاة منه في مساعدته على تحضير ملفه القانوني ضد الانتهاكات الاسرائيلية لحقوق الانسان.
ويمكن رصد أكثر من هدف للأطراف اللبنانية التي استنكرت التقرير وحاربته. فالدولة اللبنانية بشجبها لما تضمنه التقرير من “انحياز” لإسرائيل أرادت ان تسوق لنفسها موقفاً شعبوياً تمالىء فيه رأياً عاماً سريع التأثر بما تقوله محطات التلفزة ولا تريد ان تفتح عليها باب انتقادات جديدة لا سيما انها موضوعة دائماً من جانب “حزب الله” في دائرة الاتهامات بالتخوين.
اما اعتراضات “حزب الله” على التقرير فلا يمكن ان تتناول الجزءين الأول والثالث اللذين يؤكدان استهداف اسرائيل المقصود للمدنيين والأخطاء التي ارتكبتها اسرائيل في هجماتها. وتتمحور الانتقادات حول الجزء الثاني الذي يعالج سلوك “حزب الله” في الحرب وبصورة خاصة الشق المتعلق بمسؤوليته المباشرة عن مقتل عدد من المدنيين اللبنانيين والجنود العاملين في القوات الدولية. هنا يعدد التقرير حادثة اثر الأخرى موثقة بالاسماء والتواريخ لعدد الضحايا الذين سقطوا نتيجة اعمال حربية للحزب بين أماكن مأهولة.
لا يخفى ان وضع هذه المعلومات الموثقة بين ايدي الناس لا يمكن الا ان تترك ردّ فعل معيناً حتى في بلد مثل لبنان لم يتعود على المحاسبة ويرضى ويقبل بكل التضحيات التي في بعض الأحيان تفرض عليه فرضاً ويدفع ثمنها. وفي محاولة للتهرب من مواجهة المسؤولية تقصدت الحملة في لبنان على تقرير المنظمة تشويه عملها والحكم عليه بالتحيز و”الاستفزاز والسذاجة في فهم الحساسيات” بهدف تفريغ التقرير من محتواه رغم كل الدلائل والوقائع الكثيرة التي تضمنها في جزئيه اللبناني والاسرائيلي والتي من شأنها دعم الموقف اللبناني في سعيه الى مقاضاة اسرائيل دولياً وادانة السياسة الاسرائيلية.
ونسأل انفسنا هل رفض الاعتراف ببعض الممارسات لـ”حزب الله” في الجنوب خلال الحرب يبرر رفضنا لمئات الوقائع الموثقة التي تدين اسرائيل والتي تضمنها تقرير المنظمة الدولية؟
النهار