نضال الكويتية لنيل حقوقها السياسية تَجسد “نظريا” في قرار مجلس الأمة التاريخي في 16 مايو 2005، و”عمليا” في نتائج انتخابات 16 مايو 2009 بوصول أربع نساء إلى مجلس الأمة. المراقبون في الكويت وفي خارجها يستندون في تفسيرهم لوصول الأربعة إلى انفجار فقاعة الثقافة الأبوية الذكورية المسيطرة على الواقع الاجتماعي الكويتي، حيث استطاعت الثقافة الإنسانية الحرة أن تلحق هزيمة نكراء بالثقافة الأبوية الذكورية التي يحتضنها التيار الديني في بداية معركة طويلة لنيل المرأة حق المساواة مع الرجل، ولم يعد يلتفت الكويتيون إلى التهديدات الدينية السماوية المحذرة من وصول إمرأة إلى المقاعد البرلمانية التي كانت لعقود حكرا على الرجل. لذلك نستطيع بكل ثقة أن نقول بأن الثقافة الدينية المتشددة، التي تدفع بوصاية الرجل على المرأة وتسير بموازاة الرأي الذي يصف المجتمع الكويتي بأنه مجتمع محافظ وتسيطر عليه العادات والتقاليد الذكورية، قد انهزمت شر هزيمة. لذا يعتبر هذا النصر تحديا للتيار الديني الذي من المتوقع أن يعيد النظر في تكتيكاته ضد المرأة وأن يلملم صفوفه لإلحاق الهزيمة بها مجددا.
من هذا المنطلق فإن وصول المرأة إلى مقاعد المجلس هو نصر لعملية التغيير في الواقع الاجتماعي الكويتي لصالح مسألة المساواة ولجهة إنصاف المرأة والدفاع عن حقوقها، وهو واقع كان ولا يزال يخضع للتفسير الديني الذكوري والمحافظ المعادي للمرأة. ومن الواضح أن جهود القوى الداعية إلى تحرير المرأة من وصاية الرجل والداعمة للمساواة استطاعت أن تؤثر في الواقع الاجتماعي الذكوري وتساهم في تغييره. لذلك هناك خشية في أن يكون هذا التأثير محدودا ومرتبطا فحسب في وصول المرأة إلى البرلمان، إذ لابد من وجود جهود فاعلة تساهم في دعم هذا التغيير حتى تستطيع المرأة تحقيق مطالبها الحقوقية في مجالات أخرى. فالصفات المؤسسة “لإيديولوجيا الذكر” يجب أن يصار إلى تغييرها بموازاة نجاح معركة الانتخابات. لذا يجب مواجهة المساعي الهادفة إلى القفز على عوامل التغيير الرئيسية، ويجب العمل على عدم التركيز فقط على تحقيق هدف ثانوي متمثّل في وصول المرأة إلى البرلمان من دون تحديد وتفعيل الهدف الرئيسي المتمثل في المساواة بين الجنسين على أساس الحقوق والواجبات. فهذا الهدف هو المدخل لحصول المرأة ليس على حقوقها السياسية فحسب بل على حقوقها العامة من سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها. فمن يدخل بيوت الأسر الكويتية سينبهر من مستوى الظلم الاجتماعي الواقع على الكثير من البنات والنساء، وسوف يستنتج بأن حقوق المرأة السياسية هي جزء يسير من حقوقها الحياتية العامة التي تفتقدها.
وعلى أن معركة حصول المرأة على حقها في المساواة تقع على عاتق الرجل والمرأة معا، نظرا لأن تلك الحقوق إنسانية قبل أن تكون نسوية. وإذا ما كانت المرأة حريصة على تلك الحقوق والرجل غير مبال إلا بمصالحه الذكورية، فإن وعيا ثقافيا زائفا سيتشكل على هذا الأساس في المجتمع. فمن ضرورات تغيير النظرة “الدونية” تجاه المرأة والمعرقلة لأي جهد يهدف إلى تحقيق المساواة، هو خلق رؤية دينية تتواكب مع تغيرات الحياة لتضمن أنسنة الفهم. فغياب المحور الإنساني في التفسير الديني أدى إلى أن تصبح المرأة أحد ضحايا ذلك التفسير في الواقع الاجتماعي الكويتي بل وفي الواقع العربي. وعدم قدرة المرأة على قيادة السيارة في السعودية هي صورة من صور الظلم الاجتماعي ضد المرأة المستند إلى التفسير الديني، وهو أحد تجليات الوصاية الذكورية الدينية على المرأة وصورة من صور الأغلال التي كبلت يدي مطالبها الداعية إلى الحرية والمساواة بوصفها إنسانة تنتمي إلى هذا الزمان.
ولو تمعنّا في الرؤية الدينية المتشددة للحقوق السياسية للمرأة سنجد بأنها رؤية سماوية جازمة مرتبطة باحتكار تفسير “الحقيقة الدينية” الرافضة لتلك الحقوق من خلال استنادها إلى صريح النقل، حيث ترفض أي تفسير مغاير لها، لأن تلك الرؤية المغايرة ستسير في الضد مما جاء في تفسير “الحقيقة” وفي صريح النقل، وبالتالي سيصبح الأخذ بها معصية دينية ومخالفة واضحة للأوامر التي جاءت في النص والنقل. فالموقف الديني المتشدد من حقوق المرأة، دليل على عدم إيمان أنصار هذا الموقف بالمفهوم الحديث لحقوق الإنسان وعدم اهتمامهم به إلا في إطار تحقيق مصالحهم. فالأنثى في الخطاب الديني المتشدد لا تزال إنسانا من الدرجة الثانية في مقابل الذكر الذي يحتل منصبا وصائيا تجاهها بما جعله قيّما على حياتها السياسية والاجتماعية وحتى الجنسية، وبالتالي مهيمنا على أمورها ومتسلطا على شؤونها ومهينا لدرجتها الإنسانية.
وفهم المرأة الحديثة عن نفسها وحقوقها وواقعها وعن هويتها تغيّر، كما تغيّر فهم الآخرين عنها أيضا. لذلك لابد أن تتغيّر المزاعم التاريخية حول حقوقها. وكما كانت المرأة في الماضي راضية عن وضعها استنادا إلى الواقع الاجتماعي المفاهيمي الذي كان سائدا وتعيش في وسطه، فعلى الخطاب الديني أن يقبل بواقع المرأة الجديد وأن يبني تفسيره استنادا إلى الواقع حتى لو خالف ذلك النص الديني التاريخي. فالتحدي الرئيسي أمام الخطاب الديني لقبول ذلك هو الاعتراف بواقع المرأة الجديد، الواقع المستند في معظمه إلى المفهوم الحديث لحقوق الإنسان. فالمرأة القديمة التي كانت تستخدم وسائل بدائية في تنظيف منزلها، استبدلت ذلك بأساليب تنظيف جديدة في العصر الحديث، لكن تغيّر الأسلوب هذا لم يرتبط فقط بالوسائل إنما ارتبط أيضا بتغيّر الحقوق والمفاهيم.
لقد هدد بعض النواب بأنهم سوف ينسحبون من الجلسة الافتتاحية لمجلس الأمة احتجاجا على دخول نائبات إلى المجلس من دون ارتدائهن الحجاب، واستند هؤلاء في اعتراضهم إلى قانون “الضوابط الشرعية”، مما يعكس التفكير الذكوري لهؤلاء والمرتبط بالتفسير التاريخي للدين والمستند إلى شكل الحياة القديمة التي كان فيها التمييز شديدا ضد المرأة، على الرغم من أنه كان يعتبر وضعا طبيعيا. لكن أن يعاد طرح “الضوابط” في وقتنا الراهن فإن ذلك يعتبر بمثابة معاداة لمفاهيم الحياة المعاصرة التي تختلف عن تلك التي كانت موجودة في الماضي، وبالذات ما يتعلق بالحرية والمساواة. فرغم القول الشائع “لا حرية لأعداء الحرية” إلا أن “الضوابط الشرعية” هي في الضد من الحرية والمساواة بما جعل المرأة تبتعد مسافات عن هدف مساواتها مع الرجل. فالإضافة التشريعية المناهضة للمساواة والتأكيد على طرحها مجددا في الجلسة الافتتاحية لمجلس الأمة هو تأكيد من قبل أعداء الحرية والمساواة لتجريد حقوق المرأة من فحواها الحداثي والسياسي والاجتماعي. فالمدافعون عن “الضوابط الشرعية” يعكسون الفهم القاصر في إدراك المعنى الحداثي للحرية والمساواة، بالتالي هم ليسوا سوى انعكاس لسلوك أعداء الحرية. وحينما تناهض “الضوابط” المساواة بين الجنسين وتجعل للذكر حق الوصاية على ترشيح وانتخاب ودخول المرأة إلى البرلمان، سوف يكون لواضعها ومفسرّها الحق أيضا في تعيين من يتوافق ترشيحه أو ترشيحها مع تلك “الضوابط”، وسوف تخضع مسائل الانتخابات لثقافة الوصاية الذكورية في المجتمع. وحينما تكون “الضوابط” قادرة على تحديد الوجهة الانتخابية للمرأة وطريقة ترشيحها وتصويتها فإنها ستكون قادرة أيضا على تحديد من يجب أن تترشح ولمن يجب أن تصوّت.
والتيار الديني في الكويت الذي يعي بأنه لا يستطيع أن يوقف المد الحداثي السياسي، بات يعول من خلال فهمه التاريخي وغير الحضاري للدين على الوقوف بوجه أطر الحداثة الأخرى لاسيما الإطار الاجتماعي، والذي يسعى من خلاله لفرض أجندته عليها، تلك الاجندة القائمة على استهلاك مفردات العادات والتقاليد واستغلال الصور الاجتماعية المحافظة لفرض مزيد من الوصاية على المجتمع. وتكمن مسؤولية التيار الحداثي في المجتمع في القدرة على مواجهة الوصاية الأصولية على مجريات حياتنا الاجتماعية، والتي باتت في كثير من الأحيان تعوق مشاريع الحداثة السياسية.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي