ثمة من ينبّه بشكل يومي الى أن «حقوقي» كمسيحي في لبنان باتت مغتصبة، بحيث أن أحكام أهل الذمّة على وشك من أن تفرض عليّ، وربّما يبلع قومي المسلمون ولا من ينادي.
المدهش بعد ذلك أنّك ان اعترضت على هذا التصور الذي يجعل حقوق المسيحيين نصفها مغتصبة ينبغي استردادها ونصفها الآخر مهدّدة بالاغتصاب ينبغي الدفاع عنها، سيخرج عليك من يتهمك في وطنيتك وعروبتك. فمن أين للكتف أن تؤكل؟ احترنا!!
أما ان سألت بالضبط عن حقوق المسيحيين المغتصبة فسيقال لك إنها مجملة تحت حق واحد، هو حق أن يمثّلني «المسيحي القوي»، بل القوي للغاية. وكي يكون بمستطاع الأخير تمثيلي علي أن أكون ضعيفاً للغاية أمامه أو وراءه. قوته تعني أن يكون كل المسيحيين غيره ضعفاء من دونه، فقراء من دونه لا يمكنهم الاستغناء عنه. قوته تعني أن يكون كل المسيحيين اللبنانيين مستنفرين ومستعدين ليضعوا يدهم في يد القس بات روبرتسن تارة وفي يد المجاهدين تارة أخرى. وتعني قوة المسيحي القوي أن يكون مسيحيو فريقه ضعفاء ليس من مؤهل بينهم لأن يكون ندّا له أو خليفة، وتعني أن يكون مسيحيو فريق الخصم أيضاً ضعفاء ليس من مؤهّل منهم لكي تقرّ له بمسيحيةٍ ديناً أو ثقافة أو سياسة.
كما ينبغي أن تضعف المرجعية الكنسية أمام «المسيحي القوي»، وإذا ما دعت الحاجة يمكن الاستشهاد بنصوص وضعت لهذه المرجعية من بعد تأويلها بما يقتضي لجمها، وإصدار التعليمات لها بأن تهتم بشؤونها الداخلية، فتبذل الصلوات والتضرّعات، والأفضل لو تتنسّك وتتفرع بين عموديين ووقوفيين وملازمي محبسة كما كان حال السلف الماروني الصالح في مجرى نهر العاصي أو في وادي قنوبين.
وتعني «حقوق المسيحيين» هذه تسويغاً لمنطق الاصطدام مع كل من العالم المسيحي غرباً والعالم العربي محيطاً. فإذا كان العالم المسيحي غير مقتنع بحجة وتحالفات «المسيحي القوي» في لبنان، تصير «حقوق المسيحيين» موجهة ضد العالم المسيحي برمّته. يُتّهم العالم المسيحي بإعداد مؤامرة شيطانية لتفريغ الشرق الأوسط من مسيحييه، في الوقت نفسه الذي يُطالب فيه مسيحيو الشرق الأوسط هؤلاء بأن يتحولوا الى رأس حربة موجهة ضد هذا العالم المسيحي. فهل يعقل؟!
يصير الحق المسيحي والحالة هذه، حقاً في الخروج على العالم المسيحي، هذا في حين أن أبسط تعريف للكائن المسيحي هو انتماؤه بالايمان وبالوجدان الى «العالم المسيحي». فالمسيحية لا تنظر الى نفسها كشعب مسيحي على طريقة الشعب اليهودي (عام، بالعبرية)، ولا كأمة جامعة، على طريقة المأثور اسلامياً. لقد صارت المسيحية مسيحية عندما صار للمسيحية عالم، عندما وجهها بولس الرسول لكي تتحول الى عالم، ليس فقط من حيث اتساعها بل أيضاً من حيث ماهيتها.
أما اليوم فيراد بـ«حقوق المسيحيين» خروج على العالم المسيحي، حتى ولو تماشى هذا الخروج مع مقال وأداء الحركات الجهادية والصحوية، التي ينيط بها بعض الملتحقين من الملاحدة صفة «التحرّر الوطني» حيناً، وصفة المعادل الاسلامي «للاهوت التحرير» حيناً آخر.
في الوقت نفسه يراد بـ«حقوق المسيحيين» اصطدام جديد مع العالم العربي، ومن موقع اقتباس نظرية «تحالف الأقليات» في مواجهة اللون المذهبي الأكثري في هذا العالم العربي. وهذا ما يفتح على سلسلة لا آخر لها من «الحقوق». فثمة مثلاً الحق في مناهضة حكم بتهمة أنه يحاول فرض أحكام أهل الذمّة على المسيحيين، في الوقت نفسه الذي يرمى نفس الحكم بأنه قاعد لاه عن جهاد المسلمين، لا يتركهم يجاهدون بحرية وطمأنينة. وثمة كذلك الأمر الحق في ترك موقع رئاسة الجمهورية شاغراً شهراً بعد شهر الى أن تتأمن «حقوق المسيحيين»، ومن ضمنها تلك التي تسترجع صلاحيات الرئاسة، هذا في حين أن الغاية التي تبعاً لها جعلت الرئاسة في المسيحيين، وتحديداً في الموارنة، تقتضي بحد ذاتها بأن لا يغيب هذا الموقع عنهم لحظة واحدة، بحيث أن رئيس جمهورية ماروني ضعيف للغاية يبقى أفضل بالنسبة الى الطائفة من انعدام رئيس.
غاية القول إن «حقوق المسيحيين» التي يرفعها الممانعون في آخر هذا الزمن تسلب حقي أنا أيضاً كمسيحي، حقي في بذل المستطاع من أجل الحيلولة دون اصطدام لبنان مع العالم المسيحي ومع العالم العربي، وحقي في بذل المستطاع من أجل تأكيد انتماء مسيحيي لبنان الى العالم المسيحي وإلى العالم العربي.
أنا كمسيحي أمتلك الحق في أن لا أفكر بـ«حقوق المسيحيين» ولا شيء غير. أنا كمسيحي أمتلك الحق في أن لا يحجر تفكيري في سجن التخوف على «زوال المسيحيين» في هذه المنطقة، فإن ذهب مسيحيو الشرق الى العالم المسيحي فهو أيضاً عالمي، وإن انتسب مسيحيو الشرق الى أحرار العالم العربي فهو أيضاً عالمي.
السفير
http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=833&articleId=668&ChannelId=18758&Author=وسام%20سعادة