في أوائل عام 1994، عندما زرتُ المملكة العربية السعودية لأول مرة، اندهشت من كون حكومتها تروّج بنشاط لشعار وطني جديد، عبر عرضه بشكل بارز على لافتات وكتيبات في جميع أنحاء البلاد: “المملكة العربية السعودية: تَقدُّم من دون تغيير”. من الصحيح أنّ لهذا وقعاً إلا أن ذلك لم يقلل من كونه غير منطقي بنظري.
وبعد خمسة عشر عاماً، وفي ندوة أُقيمت في جامعة “هارفارد” قدّم مسؤول تنفيذي أوروبي كبير في شركة “ماكينزي” تحديثاً [لذلك الشعار]- و”ماكينزي” هي نفس الشركة الاستشارية التي تخطط اليوم للتنمية المستقبلية في المملكة العربية السعودية. وبِلغته الإنجليزية الطلقة إنّما التي تفتقر إلى المصطلحات بشكل مثالي، وصف مخططات الحرم التعليمي المشترك الأول (والوحيد حتى الآن) في المملكة، وهو “جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية”، بقوله إنه سيشمل دورات مياه للرجاء والنساء في المبنى نفسه. وهكذا، أورد بشكل فكاهي عن غير قصد ملمّحاً بالقول: “أيها السيدات والسادة، يمكنكم ببساطة النظر إلى دورات المياه لمعرفة إلى أين يتجه المجتمع السعودي!”
وتُظهر هاتان الروايتان الحقيقيتان بالكامل بأي بطء يتطور المجتمع السعودي، والمسار الطويل الذي لا يزال عليه سلوكه. لكنّ هذا وحده لا يمكنه أن يفسر ردة الفعل الإعلامية والأكاديمية والخاصة الشرسة للحكومة الأمريكية على قيام المملكة مؤخراً بإعدام 47 رجلاً أدينوا بارتكاب جرائم قتل إرهابية أو جرائم أخرى تستحق الإعدام، بمن فيهم شيخ شيعي بارز. وبالكاد كانت هذه الإعدامات قضية إحكام العدالة الكاملة؛ مع ذلك فهي أسوأ قليلاً من الهجمات الأمريكية المستمرة بالطائرات من دون طيار ضد الإرهابيين المشتبه بهم في جميع أنحاء المنطقة. وبالتالي، فمن أجل إيجاد مبرر أكثر شمولاً بل خاطئاً في النهاية لجنون التهجم على المملكة العربية السعودية في الوقت الحالي، يجب علينا النظر في خمسة عوامل جديدة.
أولاً، لم تعد الولايات المتحدة بحاجة إلى النفط السعودي لنفسها. وهذا يخلق حتماً مناخاً أكثر ملاءمة لانتقاد التجاوزات السعودية علناً. ولكن، من الضروري ألا ننسى أن الولايات المتحدة ما زالت بحاجة إلى عشرة ملايين برميل من النفط السعودي يومياً التي لا يمكن تعويضها، للمحافظة على استقرار الاقتصاد العالمي، ومن أجل “انتقال الولايات المتحدة نحو آسيا”، الذي يعتمد بشكل كبير على النفط السعودي.
بالإضافة إلى ذلك، تساعد عائدات النفط السعودية على تمويل عدة شركاء رئيسيين للولايات المتحدة في المنطقة، من مصر مروراً بالأردن ووصولاً إلى السلطة الفلسطينية. وعلى النقيض من ذلك، تشكل عائدات النفط الإيراني ضماناً لأعداء واشنطن: أي الأسد و «حزب الله» وحركة «حماس»، وغيرهم. وفيما يتخطى بكثير هذه التساؤلات الخطيرة حول المصداقية التي يثيرها أي “ابتعاد” أمريكي عن المملكة العربية السعودية، فإن هذه الاعتبارات العملية وحدها تجعل من الابتعاد اقتراحاً خطراً إلى حدّ السذاجة.
ثانياً، على الرغم من الأدلة المذكورة أعلاه، فإن محاولة الولايات المتحدة التقارب مع إيران بطريقة أو بأخرى يجعل المملكة العربية السعودية المنافسة لطهران تبدو أكثر شحوباً عند إقامة المقارنة. يُذكر أن الأمر الذي تم التغاضي عنه في هذه المقارنة هو أن معدل عمليات الإعدام التي نفذتها إيران خلال العام الماضي، على أساس نصيب الفرد (حرفياً)، يساوي تماماً ثلاث مرات معدل هذه العمليات في المملكة العربية السعودية. أو أن إيران، وليس المملكة العربية السعودية، لا تزال تظهر في جميع حسابات الولايات المتحدة الرسمية على أنها الدولة الرئيسية الراعية للإرهاب على الصعيد الدولي – بما في ذلك مقارنةً بـ “الجهاد الإسلامي الفلسطيني”، والميليشيات الشيعية القاتلة في العراق، والخلايا الطائفية التخريبية العنيفة في كل بلد من البلدان المجاورة لإيران. ووفقاً لحكومة الولايات المتحدة، فحتى إن أبرز شخصيات غسل الأموال في تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») يتخذون من إيران مقراً لهم.
وفي الوقت نفسه، بينما كانت إيران منذ وقت طويل ولا تزال الخصم الدائم قبل الاتفاق النووي ومنذ توقيعه، كانت المملكة العربية السعودية شريكةً للولايات المتحدة في المشاريع الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية. ومؤخراً، كانت إيران هي التي تراجعت عن المواجهة العلنية مع المملكة العربية السعودية، في حين تقوم بعض الحكومات العربية الأخرى بالانضمام إلى الحملة الدبلوماسية السعودية ضد طهران.
ثالثاً، إن الاتهامات الأخيرة بالدعم السعودي للإرهاب الجهادي، بالإضافة إلى ذكرى أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، تنتج مَيْلاً انعكاسياً بإلقاء اللوم على “الوهابية” وعلى أنشطة “الدعوة” السعودية المكثفة على جميع المشاكل المرتبطة بها – بدءاً من تنظيم «القاعدة» ووصولاً إلى تنظيم «داعش». بيد أن الحقيقة هي أن بعضاً من دعم المملكة العربية السعودية للإسلاميين الأجانب تم بشراكة واضحة مع الولايات المتحدة: من تمويل المجاهدين الأفغان وتسليحهم في ثمانينات القرن الماضي، إلى أن انقلبت فروعهم الإرهابية ضد الولايات المتحدة، وصولاً إلى دعم المعارضة الإسلامية السورية الأقل تطرفاً على مدى السنوات الخمس الماضية.
أضف إلى ذلك أن الحكومة السعودية ليست الكيان الوحيد الذي يقدم التمويل وغيره من أشكال الدعم لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» أو تنظيم «القاعدة» أو «جبهة النصرة» أو حركة “طالبان”، أو غيرها من أسوأ الجماعات على الساحة الجهادية. بل على العكس من ذلك، يعارض السعوديون بصورة نشطة بل قسرية تلك الجماعات في الداخل السعودي، ويشاركون الآن في المعركة ضدها خارج حدودهم. ويقيناً، يبقى الإسلام السعودي الرسمي متشدداً وكارهاً للنساء وغير متسامح إلى حد كبير. يجب أن يتغير ذلك، إلا أن هذا السلوك لا يزال بعيداً كل البعد عن تقديم الدعم المادي للإرهاب.
رابعاً، انتشرت قصة خيالية مفادها أن أحدث التحركات السعودية أدت إلى حد ما إلى “إعاقة” المبادرات الدبلوماسية الأمريكية الواعدة، من سوريا إلى اليمن. هذا هُرَاء. ففيما يتعلق بسوريا، فإنّ إيران وليس المملكة العربية السعودية، هي التي تعيق المسار، معتبرة أن الاطاحة بالأسد “خط أحمر” ومقدمة المساعدة إليه في المجزرة التي يرتكبها بحق السكان المدنيين في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت الرياض للتو أنه وعلى الرغم من انقطاع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، فإنها تبقى ملتزمة بمفاوضات السلام السورية. وفيما يتعلق باليمن، هنا أيضاً، لم يكن السعوديون هم الذين أخلّوا أولاً بوقف إطلاق النار الذي أُعلن مؤخراً، ولم يكونوا أول من قطع المحادثات حول المصالحة الوطنية، بل أعدائهم الحوثيين، وذلك بمباركة واضحة من إيران. وربما كانت هذه الخطوة بدافع إدراكهم أن الكفة مرجحة للجانب السعودي في الوقت الحالي.
خامساً وأخيراً، يتهم بعض النقاد حالياً الحكام السعوديين بكونهم ألدّ الأعداء لأنفسهم. ويرجع هذا النقد الموجه للحكومة السعودية الى قيامها بالمغامرة في الخارج وتنفير رعاياها في الداخل، بدلاً من التركيز على ما أشار اليه الرئيس الأمريكي أوباما “التهديد الأكبر الذي يتربص بهم” ألا وهو: احتياجات شعبهم المتنامي التي لم تتم تلبيتها. إذ يعتبر النقاد أن ذلك يزعزع استقرار المملكة العربية السعودية، وأنه لهذا السبب أيضاً لم تعد هي صديقة يمكن للولايات المتحدة الاعتماد عليها. لكنّ هذه التهمة يمكن توجيهها بدقة أكبر إلى إيران التي ترسل حكومتها آلاف الجنود والعناصر للقتال في الخارج في ظل القمع الداخلي العميق والتمييز العرقي والطائفي والفساد والبطالة، والاتجار بالمخدرات والإدمان بها، والفقر المتفشي الذي تعاني منه.
إلى جانب ذلك، لو أنني حصلت على مليون دولار عن كل تنبؤ صحيح قمت به، منذ الثورات الناصرية والانقلاب في القصر السعودي في عام 1958، حول زوال المملكة الوشيك، لكنت قد أصبحت ثرياً جداً الآن. وبعض النقاد نفسهم الذين أسفوا على النخبة “المسنّة” في الرياض يلقون الآن اللوم على الأمراء الحاكمين الأصغر سناً “غير الناضجين” و”الذين لم يتم اختبار كفاءتهم”. ليس هناك شك في أن الإنتقادات يمكن أن تصحّ في كلا الاتجاهين، ولكنها لن تكون مقنعة بالقدر اللازم. وفي حال سقوط عائلة آل سعود، من الذي سيحل محلها؟ من شبه المؤكد أن العناصر التي ستخلفها لن تحكم بديمقراطية ودية. ومن المرجح أكثر بكثير أن يكون الطرف الحاكم ناتج عن تنظيم «الدولة الإسلامية» أو تنظيم «القاعدة» أو نظاماً عميلاً لإيران – أو مزيجاً فوضوياً وعدائياً وخطراً للغاية من هذه الأطراف الثلاثة.
قد يواجه السعوديون مشاكل داخلية وتهديدات خارجية، وهم بالفعل يعانون منهما. وبالتالي هم بحاجة إلى التعامل مع كليهما. وهم يتكيّفون بشكل مؤلم ولكن فعال مع أسعار النفط التي تنخفض إلى حد كبير، كما فعلوا عدة مرات في الماضي القريب. إن حملاتهم الخارجية الجديدة، بدءاً من البحرين في عام 2011، هي إلى حد كبير عبارة عن ردة فعل تجاه التردد الجديد للولايات المتحدة في حمايتهم، وأداؤهم جيد نسبياً. أما على الجبهة الداخلية، فإن الاقتراع الانتخابي والأدلة السردية الصلبة تبيّن بوضوح أن المواطنين السعوديين يدعمون بأغلبية ساحقة اعتماد نهج متشدد جداً ضد ما يعتبرونه التهديدات الثلاثة المتطرفة: تنظيم «داعش» وتنظيم «القاعدة» وإيران.
وستؤدي جميع هذه العوامل إلى ما يلي: على الرغم من القيم والأفضليات التكتيكية المختلفة جداً، تتمتع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية بمصالح استراتيجية مشتركة مهمة ودائمة. وسيكون من ذروة السذاجة التخلي عنها بسبب ردود فعل مضللة نتيجة الاحداث الأخيرة، سواء على حادثة الإعدام أو فيما يخص التواصل الأمريكي المتعثّر تجاه إيران.
ديفيد بولوك هو زميل كوفمان في معهد واشنطن ومدير “منتدى فكرة”. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع “منتدى فكرة”.