يمكن تعريف اليمن بأنها ذلك الوطن الذي كثر منقذوه فأغرقوه. ليس بالحرب وحدها، ولكن بأساليب وحيل شتى، وبالمبادرات والمشاريع والمهرجانات والمؤتمرات والملتقيات التي تُنسَج خيوطها من بارود ودخان ورماد الحروب، وتنعقد فوق الأنقاض والأطلال والأجداث والأشلاء، ونواعير الدماء وشلالات الأنين والعويل والبكاء، وتَرفع شعارات السلام والحوار والمصالحة و”الإنقاذ الوطني”. و… حين يحملق المرء أكثر في صور الكثير من المستحوذين على المنابر، النهَّابين للمنصات ومكبّرات الصوت والأضواء، يصيبه الغبش، ويهلكه التحديق في النقطة العمياء، وتتلاطمه أمواج التيه والسراب والمرايا والانعدام واللاجدوى.
كيف لا وكل “هؤلاء” الذين يقفون اليوم على المنبر ويتربعون المنصة، ويبتلعون المايكرفون والكاميرا والضوء والمسرح، كانوا بالأمس، فقط، هم حملة البنادق والبيارق، ورؤساء الفرق وأمراء الحرب والفيالق والميليشيات وكتائب الموت والإعدام.
ولم أفلح قبل أيام ، وبالتحديد في مساء السبت الماضي، في إقناع زميل وصديق عزيز أن يكف عن فكرة الذهاب إلى “صعدة” لحضور مؤتمر للسلام ينعقد بدعوة وتمويل من تاجر السلاح الأشهر في اليمن وعلى مستوى المنطقة.
واستنفذت كل السبل لإقناعه بالعدول عن الذهاب، ولكن لم يقتنع لأن المغامرة استحوذته وانساق وراء نفسه الأمّارة بالشجاعة الزائفة وذهب مع الحافلة التي أقلت العديد من الصحفيين. وفي نهار الأحد صار صاحبي خبراً مدوياً تردّد وتكرّر عشرات ومئات المرات في شريط قناة “الجزيرة” الفضائية الذي أفاد بأن السلطات اليمنية قامت باحتجاز 25 صحفياً, وكان من الوارد أن يصعقني الخبر لو لم أكن أعلم بخفايا الأمر.
والحكاية أني كنت مستفزاً ومغتاظاً من صديقي، ولاحقته بمكالمة هاتفية في السادسة من صباح الأحد وأخبرني أن نقطة عسكرية في منطقة الجبل الأسود أوصدت الطريق أمامهم. واطمئن بالي وتمنيت أن يقوم الجيش برد أصحابي الصحفيين على أعقابهم، ويحرمهم من متعة اجتراح مغامرة لا تستحق المغامرة! ومضيت أطالع الخبر في شريط “الجزيرة” وطربت كثيراً من “الجزيرة” التي تبدو مثيرة حتى عندما تكذب، وتكرّر الكذبة كثيراً لتحملك على تصديقها!
وما كان هذا الشعور ليخامرني لولا قناعتي بأن زملائي الذين كانوا يعتزمون الذهاب إلى “صعدة” لحضور “فعاليات المؤتمر الوطني للسلام” استجابةً لدعوة تاجر السلاح “فارس مناع”، لن يختلفوا عن أولئك الذين شاركوا في فعاليات “ملتقى أبناء صعدة” الذي انعقد بصنعاء في 13 أغسطس تحت شعار “صعدة، بناء، وإخاء، وسلام” برئاسة الشيخ حسين بن عبدالله بن حسين الأحمر الذي كان يقود الجيش الشعبي (القبائل) المساند لجيش السلطة في الحرب ضد “الحوثيين. وكان مطلع هذا الأسبوع قد شن هجوماً ضارياً استباح فيه مدينة “حوث” لملاحقة “الهاشميين” وأتباع الحوثي- حسب تصريحاته – مع العلم ان الهاشميين يشكلون 95% من سكان هذه المدينة.
وانطلاقاً من قناعتي وإدراكي بأن ما يحدث يعتبر ضرباً من الإمعان في العبث واللاجدوى والتزويق على الكارثة والتمويه على المأساة وإنعاش سوق غسيل أو “تبييض الرجال” –على غرار تبييض الأموال- بقصد الترويج والتسويق لمن كانوا سادة للحرب والخراب، وتقديمهم في صورة دعاة السلام السبّاقين لرفع لافتات إعادة البناء والاعمار، والمبادرين لمخاطبة الدول المانحة ودول الجوار بإسناد مؤتمراتهم التي تشكل “السبيل الوحيد لإخراج صعدة من المأساة”.
انطلاقاً من هذه القناعة، رفعت نقطة نظام على زملاء الحافلة ولم يمنعني ذلك من القلق عليهم والخوف من أن يصابوا بمكروه. وتوسلت لهم الأعذار والمبررات، وذهبت أحدّث نفسي بأن ما حدث لهم يمكن أن يحدث لأي صحفي مثقل بوطأة التناقضات والتشوش والمفارقة.
وخاطبت نفسي، أيضاً، كيف لم يلتفت زملائي الأعزاء لهؤلاء المستفيدين من إشعال الحرائق والحروب حين يجاهرون بتقديم أنفسهم كدعاة سل، بل ويتجرأون على تقديم أنفسهم كنافذة وحيدة للحل ولاستقبال الدعم المطلوب لإعادة الاعمار، ويعقدون مؤتمرات حاشدة لا تختلف عن حفلات الزار التي يستدرجون إليها الصحفيين ليكونوا شهود زور، في أحسن الأحوال.
* منصور هائل هو رئيس صحيفة “التجمّع”- صنعاء